مستوى ونوع المعرفة يحدد حجم الجبن أو الجرأة لدى صاحبها. نستطيع القول إن حجم نوع المعرفة التى توافرت لجيل الكبار داخل هذا المجتمع ولدت لديه جبناً عريقاً، فى حين نجد أن حجم ونوع المعرفة الخاصة بجيل الشباب ولدت لديه جرأة، أحياناً ما تأخذ شكل الاندفاع. جيل الكبار اعتمد على المعرفة النصية، ونعنى بها المعرفة التى تعتمد على نصوص الكتب فى تكوين المعتقدات وتحديد الاتجاهات، وهى أيضاً المعرفة التى تعتمد على تواصلية من طرف واحد (من الكاتب إلى القارئ) دون أن تتمتع بنوع من التفاعل العكسى بين القارئ والنص. المعرفة المتاحة للجيل الجديد لا تستند إلى «النصية»، بل تعتمد بالأساس على «الإلكترونية»، بما توفره من مصادر شديدة التنوع والثراء للحصول على المعارف، وبما تتمتع به من تفاعلية تمكّن المتلقى من إبداء رأيه وتوضيح فكره ووجهات نظره عبر التعليق على النصوص التى يتلقاها.
الفارق كبير بين أصحاب المعرفة «النصية» والمعرفة «الإلكترونية». أصحاب النوع الأول من المعرفة من كبار السن يمتلكون عقلاً يميل إلى التسليم والتوقير لما يقرأ وما يسمع، وحتى إذا تجادل مع النص، فإنه يتجادل معه داخلياً، أو بينه وبين نفسه، وقليلاً ما يخرج إلى الفضاء العام المحيط به، ليطرح رأيه أو وجهة نظره فيما قرأ أو سمع. ربّت المعرفة النصية أجيال الكبار على محبة «الاستقرار» حتى ولو أخذ شكل الركود، والتحفظ على أى جديد يمكن أن يقلقل الواقع الثابت، يدعمه فى ذلك جبن تاريخى يرتبط بمحبة الخضوع والتسليم أكثر من التمرد، والاستماع أكثر من الكلام «عشان الحيطان ليها ودان»، وإيثار السلامة والعافية مع الخسارة على المغامرة ولو كان فى رحمها المكسب. الجيل الجديد الذى تربى فى ظل بيئة معرفية «إلكترونية» مختلف أشد الاختلاف، هو جيل لا يؤمن بالفكر الأحادى، إذ علمته مصادره المعرفية أن التعددية جوهر من جواهر النظر إلى الحياة وما يتفاعل فيها من أحداث وقضايا، جيل يرى أن التنازع بين الأشياء أمر طبيعى، حتى ولو أدى هذا التنازع أو التدافع إلى إرباك الحياة، فالحياة المرتبكة تبشر بالتغيير، فى حين أن الحياة المستقرة مقدمة للدخول فى حالة «تعفن». علمت المصادر المعرفية الإلكترونية الجيل الجديد أن يحب الحركة، سواء عبر الواقع المعاش، أو عبر الواقع الافتراضى، لذا تجده حالماً بالسفر والهجرة، حتى ولو كان فى المغامرة حتفه، وميالاً إلى التفاعل مع أطياف بشرية من دول ومجتمعات مختلفة عبر الإنترنت.
ربما اتهم البعض الجيل الجديد من الشباب بـ«التشوش المعرفى» وعدم الاعتماد على معارف متماسكة مرتكزة، وأنه أكثر حيرة وأشد ارتباكاً وإرباكاً للحياة من جيل الكبار، لكن شباب اليوم يسخرون من ذلك، ويرون أن الجرأة على التحرك وعدم الاستكانة للثوابت هى أصل تطوير الحياة. إنه جيل أكثر جرأة، والفضل فى ذلك يعود إلى معرفته «الإلكترونية» القائمة على مفهوم التفاعل. يبدو شباب اليوم الأكثر تململاً من أى حالة جمود أو ثبات فى الأوضاع المعاشة، وما أكثر ما يسلقهم الكبار بألسنة حداد، حين يكررون أن أكبر فضيلة فى الحياة هى فضيلة «الاستقرار» حتى ولو جاء فى ثوب «الموت»!.