شهد الأسبوع الماضى ترحيباً شعبياً هائلاً برائعة أستاذنا الفنان الكبير أكرم حسنى الشهير بـ«أبى حفيظة»، التى يشدو فيها مع آخرين قائلاً: «شمّر يلا» على أنغام مهرجاناتية بالغة العذوبة تصافح آذان إخواننا المصريين وتقتحم وجدان كل منهم دون استئذان على طريق الحب من أول نظرة.
وفى الأسبوع المذكور ذاته احتقن الشارع والبرلمان والإعلام ضد الأخ الوزير طارق شوقى، وقالت إحدى كبريات الصحف إنه مرشح للإقالة خلال أيام لأنه رفض -أو تغيب عن- المثول أمام لجنة التعليم بمجلس النواب، وما زال هذا الوزير يواجه انتقادات من كل فئات الشعب المصرى الكريم لأنه يحاول إصلاح التعليم متحدياً ثقافة المجتمع ومتجاهلاً حالة التكلس الرهيب التى ضربت كل قطاعات هذا البلد طوال ما يقرب من نصف قرن من الزمان.
رحب المصريون بالأغنية الخائبة التى قدمتها لهم إحدى شركات الاتصالات على سبيل الدعاية لأن هذه الأغنية تتسق فى هبوطها وإسفافها وقرفها مع قطاع طويل وعريض وكثيف من السادة والسيدات سكان جمهورية مصر العربية، ولأن الأخ أبا حفيظة واحد مننا، يشبهنا فى كل ما يقدمه من أعمال، وكل ما يشدو به من أغانٍ وكل ما يستظرف به من أشياء يعتبرها كوميديا رفيعة المستوى.
أما بالنسبة للوزير طارق شوقى فالأمر يختلف تماماً، فالأخوة المصريون صاروا على وفاق كامل مع حالة التعليم التى قدمتها لهم الدولة طوال عهد الزعيم المؤمن محمد حسنى مبارك فضلاً عن السنوات الأخيرة من عهد الزعيم المؤمن محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام، أدمن المصريون الدروس الخصوصية والمجموعات والكتب الخارجية، وأدمنوا الغياب الكامل لأبنائهم فى الصفوف النهائية من المرحلة الثانوية أو الإعدادية، وأدمنوا مدارس اللغات والمدارس الدولية لمن استطاع إليها سبيلاً، وأدمنوا «تزغيط» أولادهم المعلومات كالبط والأوز دون فهم أو مناقشة على أيدى المدرسين المنزليين، وأدمنوا عبادة صنم الثانوية العامة وصنم كليات القمة وصنم التعليم الجامعى رغم أن كل هذه الأصنام لم تعد تقدم للخريجين أى مستقبل حقيقى أو أى علم حقيقى أو أى عائد مادى حقيقى، لم يتمكن وزير أو رئيس أو حكومة طوال العقود الأربعة الماضية من التعامل الاستراتيجى مع عورات التعليم المصرى فى كل مراحله، واصطدمت محاولات الإصلاح بثقافة إدمان التخلف التى ضربت هذا الشعب بعد شهور قليلة من حرب أكتوبر 73 وما زالت تضرب حتى الآن.
البرلمان الموقر غاضب على الوزير لأنه تغيب عن إحدى جلسات المناقشة أو الحساب، ولكن هذا البرلمان نفسه استمع فى جلسة سابقة لشرح شبه تفصيلى من هذا الوزير نفسه قال فيه إن التعليم فى مصر سيئ للغاية («زفت» نصاً) وأن أحوال الوزارة لا تقل سواداً عن أحوال التلاميذ والمدارس والمدرسين، وأن الموازنة السنوية المتاحة مخصصة بالكامل تقريباً لأجور السادة المدرسين والسادة الموظفين، وأن ما يتبقى منها يستحيل استخدامه فى أى تطوير حقيقى فى الوقت الراهن، وأنه على الرغم من كل هذا يحاول وضع سياسات جديدة تضمن الارتقاء بمستوى العملية التعليمية للتلاميذ الذين يلتحقون بالمدارس الابتدائية اعتباراً من العام الدراسى المقبل، وأنه يحاول وضع سياسة تضمن تحويل طلاب الثانوى والإعدادى من الحفظ إلى الفهم، وأنه يحاول البحث عن موارد مالية لإصلاح أحوال المدرسين والقضاء على الدروس الخصوصية، والكتاب المدرسى التقليدى الذى لا يستفيد منه أحد سوى المطابع وتجار الورق.. قال طارق شوقى كلاماً كثيراً يستحق الاحترام أمام مجلس النواب، وقال لهم إن الأزمة الحالية نتاج عقود طويلة من التخلف الشامل والإهمال الكامل لشأن التعليم العام والفنى فى مصر. ولكن السادة النواب لم يعجبهم هذا الكلام، وقال له أحدهم إنه وزير فاشل لأنه قضى تسعة شهور فى الوزارة دون أن يتغلب على هذه العورات!! يرى السيد النائب الموقر أن الأخ الوزير فاشل لأنه لم يقضِ على فساد نصف قرن فى تسعة شهور، ولأنه لم يتمكن من تدبير نصف تريليون جنيه على الأقل لإصلاح أحوال المبانى والمناهج والمدرسين والتلاميذ، ولأنه يصر على الإصلاح الجذرى للتعليم رغم أن الناس «مبسوطة كده» ومش عايزة منه حاجة!
لو كانت لجنة التعليم فى البرلمان تحضر أو تشاهد مؤتمرات الشباب وغيرهم التى يحضرها رئيس الجمهورية لسمعوا فى المؤتمر السابق البرنامج المختصر الذى عرضه وزير التعليم، ولسمعوا وشاهدوا كيف قاطعة الرئيس وسأله عن الاعتمادات المالية التى حصل عليها من الدولة، ووقتها صمت الوزير ولم يرد -ربما خجلاً أو تأدباً- ولكن الرئيس قال له وللناس الرقم، وقال أيضاً لطارق شوقى إنه يعلم حاجته لأضعاف هذه الاعتمادات لتحقيق برنامجه الإصلاحى، ولكن الفلوس لا تكفى فى الموازنة الحالية.
السادة النواب مش عاجبهم كلام الوزير ولا عاجبهم اعتراف الرئيس نفسه بقصور الموازنة عن تلبية حاجات التطوير الشامل. ولكنهم يريدون فقط الإطاحة بطارق شوقى رغم أنه أفضل وزير تعليم فى العقود الخمسة أو الأربعة الماضية وحتى الآن، ولكن عيبه الأساسى أنه يحاول إنقاذنا من إدمان الجهل والتخلف، والمدمن دائماً عدو شرس للطبيب الذى يحاول علاجه.