في العام 2004، صحت إسبانيا ذات يوم على تحضير مراسم زواج ملكي، بسيط نوع ما، لكن متى أحب الأمير الشاب؟! ومن تلك الملكة الصغيرة الجديدة؟! ولأي الأسر الملكية تنتمي؟! وما لقب أو رتبة والديها؟! ربما كانت ابنة ثري مهم؟! أو وريثة أحد الأعيان.. أو العلماء.. أو الفنانين! هكذا ظل الشعب يتهامس، ويتساءل ومراسم الزواج تُحضّر.
تخرج عليهم ليتيسيا، فيعرفونها على الفور، يتهامسون مجددا، أليست هي؟! نعم هي بذاتها (لا.. لا.. لا بد أنه تشابه لا أكثر!) ولكنها تحمل الاسم ذاته! إذن هي تلك المذيعة الشقراء في التلفزيون الإسباني!، بعض الرعية فرح، والبعض الآخر تعجب واستنكر، وامتعض وأنكر.
من فرحوا، فرحوا لكونها عروسا من عامة الشعب، فهي منهم، بهذا يكون لهم سفير دائم داخل القصر الملكي، ذاك القصر الذي اهتز مؤخرا بزلازل من الفضائح واللعنات والكوارث المتتالية، من اتهامات في الذمة المالية، وبالفساد والبذخ والإسراف وإضاعة أموال الشعب.
من استنكر ذاك الزواج، استنكره لتفاصيل استفزتهم، فالملكة الشابة، لا تحمل دما ملكيا، وهذا محبط جدا للمحافظين، والتقليدين ولذوي الأحلام الوردية من الرومانسيين، الحالمين بالأعراس الملكية الساحرة، وطقوسها الفاخرة، واستعداداتها ولياليها المتواصلة، وزاد الطين بلة أن تكون الملكة الشابة، حفيدة سائق أجرة، وابنة ممرضة ومحرر في إذاعة محلية، أبواها مطلقان منذ زمن، بل إنها هي أيضا مطلقة من زواج مدني، من أستاذها الذي يكبرها بسنوات.
ملكة (مطلقة؟!)، قال لسان حال الشعب مستنكرا، كما أنها قبل عملها مراسلة، ومذيعة باعت السجائر والثقاب، وظل الشعب المذهول فاغرا فاهه، مراقبا، علهم يستطيعون تفسير الحدث، فماذا رأوا ورأى العالم معهم؟!
لقد بدأت القصة عندما استدعيت ليتيسيا لتغطية غرق الناقلة الإسبانية "بريستيج" كمراسلة للتلفزيون الإسباني، والتقت حينها بولي العهد (الأمير فيليبي) الذي أشرف بنفسه على عمليات مكافحة تسرب النفط، والذي تسربت معه مشاعره نحو (ليتيسيا) الحسناء الشقراء، ذات الحضور والذكاء والإقدام والبهاء، تكتّم الحبيبان على قصتهما، ولقاءاتهما إلى آن فاجآ الأسرة المالكة، والشعب والعالم بحبهما وعزمهما على الزواج.
كلا العروسين جاء من عالم مناقض للآخر تماما، فهو حينها (الأمير فيليبي وولي عهد العرش الإسباني) شاب وسيم ممشوق القوام، كان يوم مولده عيدا، إذ أغمي على الملك (خوان كارلوس) فرحا بقدوم ولي للعهد ذكرا بعد ابنتين (وهنا أظنها بعضا من جيناتنا العربية تركناها في الأندلس)، على أية حال، وفي كل الأحوال، نشأ الشاب الوسيم دارسا للحقوق، حاصلا على ماجستير في العلاقات الدولية وملما بالعلوم العسكرية، متدربا على ركوب الطائرات ومجيدا للغات أخرى بجانب الإسبانية، فقد استعد لولاية العهد، منذ الطفولة، وترعرع ناصبا أمام عينيه حلما وحيدا، بأن يصبح ملكا للبلاد يوما، هو مبتسم الوجه هادئ الطباع، متحفظ.
أما هي فجميلة ومميزة، بها نشاط وعفوية البسيطات، لا تلقي للرسميات والبروتوكولات بالا، فهي لم تنشأ عليها من الأساس، وهنا تطل كوميديا القصور، حيث تغضب الملكة الأم من تمرد وتذمر الملكة الشعبية الدائم، وخرقها لقواعد وأصول القصور، لكن (ليتيسيا) لا تهتم، ويزداد عصيانها، كحصان جامح فقد لجامه، وأسقط فارسه غير ناظر للخلف، مستمرا في جموحه وجنوحه، فهي من قالت ذات يوم لولي العهد الشاب: "اسمح لي أن أنهي كلامي".. زاجرة ومقاطعة إياه، فيما كانت ترد على أسئلة صحفيين، بعد طلبها للزواج، وأثارت حينها الدهشة والعجب، وازدادت حملقة الشعب لها! أي الملكات جرأة هذه الليتيسيا؟!
وتمر سنوات الزواج بين الحبيبين، كل يوم قصة جديدة، وخلاف وسجال جديد بين نساء القصر، فالملكة الأم والأميرات أخوات فيليبي يكونون جبهة، والملكة الشعبية القوية تمثل جبهة مضادة، ولكن للأيام فعل السحر، ودوام الحال من المحال.. تهدأ الملكة المتمردة داخل القصر وخارجه وتبدأ في صنع تواصل وتعاطف مع الشعب، بعد أن كانت العلاقة بينهما فاترة جافة وتظهر كملكة حقيقية، بكل معاني الكلمة، وكلما كبرت عائلتها الصغيرة كبرت وتوثقت علاقتها بشعبها ومملكتها الأثيرة، وأحبها وتعلق بها الناس، فهي الآن أكثر هدوءا وعطفا وهي الأنيقة دوما، مبالغة في نحافتها، منتعلة كعبا عاليا، تقول على أنغامه، ها أنا ذا.. أنا الملكة هنا.
أخذت حملقة المراقبة والاستغراب تتحول إلى نظرات رضا وفخر وزهو، بالملكة الشابة المشرفة، ابنة الشعب، وبذلك خبا وخمد غضب الرعية السابق على الأسرة المالكة، فالملكان الشابان يسكنان منزلا جميلا داخل القصر الكبير القديم، وهما بعيدان كل البعد عن البذخ والاستفزاز الشعبي، كما أصبح الملك الشاب أنشط بروتوكوليا وحضورا وتمثيلا لمملكته، ونموذجا رائعا لملك محافظ وقريب من شعبه، ومازالت إسبانيا وملكاها الشابان، يعيشان قصة عشقهما الفريدة.