الخطوة المتقدمة التى قام بها ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان بحق مجموعة الأمراء والقيادات الرسمية وأصحاب النفوذ السعودى، من الزاوية الإعلامية، يمكن اعتبارها تاريخاً لزلزال سياسى. لكن على أرض واقع العمل السياسى والحياة داخل المملكة سيكون التاريخ محل خلاف، مع الاتفاق أننا بصدد زلزال حقيقى له مقاييس متقدمة من الهزات والارتدادات. التاريخ الذى يمكن اعتماده الأقرب تلامساً مع الواقع السياسى بالمملكة، هو موعد الاستقرار داخل بيت الحكم السعودى على صدور قرار نقل السلطة إلى ما أصبح يُعرف بالجيل الثالث. فمنذ هذا التاريخ جاء المشهد كاشفاً عن خطة الحكم المستقبلى لما استقر عليه الوضع داخل أروقة عائلة آل سعود. ويمكن النظر إلى التوقيت باعتباره اختياراً ذكياً صادف متغيرات الفضاء الإقليمى والدولى، ويُحسب لنظام الحكم السعودى، فى غضون الظرف المعقد الذى تمر به المنطقة، أنه لم يقف عند قرار بدء استحضار الجيل الجديد لمقاعد الحكم، ولم تستغرقه ملفات المنطقة المفتوحة على مصراعيها، والمملكة حاضرة بقوة فى ملابساتها، بل أدرك أن جيلاً جديداً للحكم يحتاج بالضرورة إلى مشروع جديد يتوافق مع فقه العصر، ويؤكد جدارة التوقيت، حتى يصير مؤهلاً للاشتباك الفورى مع تحديات المستقبل الذى سيجابهه، من موقع رسم السياسات واتخاذ القرار.
مرة أخرى ما يُحسب للمملكة أنها سخّرت إمكانيات فكرية متنوعة من أجل صياغة مشروع رصين وواعد، فضلاً عن احتوائه على قدر عال من الاستنارة وواقعية وشفافية تقييم أوضاعها الداخلية والإقليمية. ومما يُعد إجابة مبكرة عن سؤال المقال الرئيسى أصبح الأمير محمد بن سلمان، بمجرد امتلاكه لهذا المشروع، هو صاحب الحظ الأكبر فى الانتصار، فقد أدرك الجميع حينها أن لديه إجابات متماسكة فى الغالب من ملفات هذا المستقبل الذى يتأهل لاقتحامه. على جانب مقابل سيكون هناك «منطقياً» من يختلف على تلك الإجابات، من الداخل السعودى ومن الخارج، وهناك من سيطعن فى جدارة هذا المشروع بكل الصيغ الممكنة. لكن يظل المشروع السعودى الجديد قادراً على المضىّ قدماً إلى الأمام، لكونه سعودياً وليس خاصاً بولى العهد كما يحلو للبعض اختزاله، تماماً كما يتم التغييب العمدى أن لهذا المشروع داعميه والمؤمنين به من داخل الأسرة الحاكمة، وفى قطاع عريض من المجتمع السعودى. المملكة بكونها دولة كبيرة، ولانخراطها فى ملفات الإقليم المتعددة، تشكّل لها أعداء يحاربون الخطوات السعودية، حتى وإن كانت خطواتها فى الطريق الصحيح، أو باتجاه حماية نفوذها وأمنها القومى وهو حقها المشروع. بطبيعة أدوات وأسلحة هذا العصر كما تدار حروب الوكالة، هناك أيضاً «سرديات» موازية لكل مشهد أو قضية سياسية، وهو جنوح عن المنطق والتحليل السليم الذى يزن الأمور فى سياقها الصحيح، وينحرف بزاوية الرؤية من خلال موقع المراقب أو المتحدث. مثال تلك الآلية هو واقعة استقالة رئيس الوزراء اللبنانى من منصبه، كفعل سياسى قام به الحريرى تحت وطأة التغول الإيرانى على مقدّرات الواقع اللبنانى برمته، ليصير على الفور لهذا الأمر «سردية» تبتعد عن أصل القضية، لتسحبه إلى مربع الفعل السعودى فى القرار اللبنانى، وكأن الفعل الإيرانى فى لبنان غائب عن أعين العالم، حيث يصير دعم وتمويل جيش لبنانى موازٍ «ميليشيا حزب الله» إيرانياً، ويكلف من قبَل الأخيرة بالخروج من لبنان وخوض حروب وعمليات عسكرية فى سوريا وغيرها، من خلف ظهر الدولة الرسمية اللبنانية ورغم أنفها، ومنه إلى السيطرة على مقاليد أمور وقرار الدولة اللبنانية بمنطق امتلاك القوة، يُعد هذا كله شكلاً طبيعياً مما يمكن تمريره والقبول به.
النماذج والأمثلة التى يمكن تناولها فى هذا السياق كثيرة ومتنوعة، والعداء الإيرانى والقطرى للسعودية يجعل زخم مثل تلك الأطروحات حاضراً طوال الوقت. فى المقابل يظل الواقع والمنطق فى تقييم السياسات والبحث عن الحقائق غائباً، وهو شكل من الأشكال الحديثة لإدارة الصراع مورس ضد مصر هى الأخرى ولا يزال فى العديد من القضايا المشابهة.
مشروع المستقبل السعودى الذى يطرحه ولى العهد يتضمن تغييراً جذرياً لشرعية الحكم بالمملكة، ربما لم يطرأ عليها منذ تاريخ التأسيس. فالعنوان الرئيسى فيه استبدال الشرعية الدينية التى تمثلت فى خدمة الأماكن المقدسة، وما استتبعها من تحالف وثيق مع المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، إلى شرعية الاعتماد على منهج «حداثى» متعدد الروافد، يخدم صناعة المستقبل الذى تعد به مؤسسة الحكم الشعب السعودى. وهذا هو الزلزال الحقيقى الذى يمكن تلمس بعض من ارتداداته فى نبذ الشكل التقليدى الجامد للفكر الدينى صانع التطرف «كما ذكر نصاً ولى العهد»، والأخذ بأحدث تقنيات العلم فى مشروع 2030 لسعودية جديدة، وإطلاق الحريات الاجتماعية بما يحقق نمطاً جديداً للحياة، وفى خطوته الأحدث اقتحام مكونات ومواقع الفساد والنفوذ العائلى والمناصبى لتشكيل واقع اقتصادى قادر على النمو المستدام. هى عناوين مزلزلة بالفعل، لكنها الأقرب استجابة لواقع الشارع السعودى الذى تجوب أنظاره العالم من حوله، وهو أحد الأسلحة الفاعلة فى يد ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، الذى ضمن نسبة كبيرة من النجاح بكونه يمضى حاملاً مشروعاً حقيقياً فى الوقت الذى يظل فيه الآخرون مجرد أرقام معطلة. وفى معادلة من هذا النوع ينتصر صاحب المشروع، رغم ما قد يقابله من عقبات وتقاطع للمصالح والنفوذ، فهى تظل بطبيعتها مجرد تفاصيل ومحفزات للمضىّ قدماً إلى المستقبل.