قطار التغيير فى منطقة الشرق الأوسط يمضى سريعاً لا يتوقف فى محطاته ليلتقط الأنفاس، بل يسارع الزمن ليصل إلى محطته الأخيرة التى ستغير شكل المنطقة ومساراتها المرسومة.
ثمة هزة عنيفة تجتاح المملكة السعودية تنذر بعاصفة جامحة منذ أعلنت السعودية عن قرارات ستنقل المملكة إلى مربع جديد على كافة المستويات، فما شهدته السعودية مؤخراً من حملة اعتقالات واسعة طالت شرائح كثيرة من المجتمع السعودى صحفيين وسياسيين ورجال أعمال ووصلت إلى أمراء حتى انتهت باعتقال الأمير ورجل الأعمال الوليد بن طلال بحجة مكافحة الفساد، هو قفزة نوعية تنم عن جرأة يقودها محمد بن سلمان الذى كرّس السلطات فى يده، وهو الأمر الذى لاقى استياء ومعارضة فى الأسرة المالكة السعودية، فقد أصبح هو الصوت المهيمن فى مؤسسات حساسة مثل الجيش والخارجية والاقتصاد والسياسات الاجتماعية.
هذا التغير الذى يحدث فى السعودية بدأ منذ إعفاء ولى العهد الأمير محمد بن نايف من منصبه واحتجازه من قبَل الأسرة الحاكمة وتصعيد الأمير محمد بن سلمان ولى ولى العهد ليحل مكانه. فمنذ زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى الرياض ضمن جولته الأولى للشرق الوسط ورقصه جنباً إلى جنب مع الملك سلمان والمملكة تسير فى اتجاهات معاكسة لما هو متبع.. (سيف وشماغ وصندل) رقصة كلفت السعودية أكثر من 400 مليون دولار لا تزال نتائجها تظهر تباعاً حتى اليوم فى جميع النواحى من قرارات اقتصادية يصفها خبراء بالكارثية، إلى أزمات مالية داخلية بدأت تظهر جلياً على المجتمع السعودى، وقرارات سياسية يشوبها النزق والتسرع، ومن الصعب تجاهل ما يحدث فى السعودية الآن دون النظر إلى العلاقة التى تربط الرئيس الأمريكى بصنّاع القرار فى المملكة، حيث تجمع «ترامب» علاقات وثيقة مع ولى العهد الأمير محمد بن سلمان الذى عمل بدوره على تقوية علاقته مع جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكى لشئون الشرق الأوسط وزوج ابنته إيفانكا، خلال الجولة التى قام بها «ترامب» وبدأها بالسعودية الغنية بالنفط، ويتزامن ذلك مع التغريدات التى كتبها «ترامب» على حسابه بموقع «تويتر» تفيد بأنه يحاول إقناع المملكة بإدراج أسهم شركة أرامكو السعودية فى بورصة نيويورك، ثم قيام «كوشنر» بزيارة خاطفة للمملكة قبل أيام من إصدار أوامر احتجاز الأمراء والوزراء والمسئولين السعوديين بشكل مفاجئ.
لقد سبقت عملية الاحتجاز حملة سعودية شرسة ضد المعارضين السياسيين فى شهر سبتمبر الماضى وشملت رجال دين ومثقفين ونشطاء، وهو ما يعنى أن هدف القرارات يتجاوز مكافحة الفساد إلى التخلص من معارضة محتملة لبرنامج الأمير الإصلاحى الطموح، فقد عقد ولى العهد العزم بالرهان على التغيير فى المملكة يتصدره حملة تطهير من خلال الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والإقالة من المؤسسة الدينية والسياسية التى طالت الأسرة الحاكمة نفسها، لأنه يعلم جيداً أن مستقبله السياسى على المحك ويعتمد على قدرته فى التصرف بحزم ضد أى مركز قوة محتمل قد يعرّض طموحه بأن يكون الملك المقبل للخطر. إن عملية اعتقال الأمراء والوزراء وفصل قائد الحرس الوطنى تكشف عن أن هناك معارضة كبيرة لولى العهد، فالتغييرات التى أدخلها إلى المجتمع والاقتصاد السعودى بالنسبة للمعارضة سببت هزة شديدة فُسرت برغبته فى تأسيس حكمه فى دولة المؤسسات الحديثة والتنوع فى تركيبة النخب التقليدية فى السلطة وإبعاد أفراد أسرته والمؤسسات القبلية والدينية عن مواقع التأثير لإنهاء حقبة وبداية أخرى جديدة، وربما تستمر هذه الإجراءات لأشهر عدة لأنها تشكل جزءاً من عملية التتويج القريبة للأمير ولى العهد، ومن المتوقع أن يستمر قطار الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز مكانة المرأة والحد من سلطات الشرطة الدينية، فضلاً عن نيته بيع الكثير من أصول الدولة ومن بينها طرح جزء من شركة النفط العملاقة أرامكو المملوكة للدولة فى الأسواق العالمية كما يرغب «ترامب».
المملكة السعودية على مفترق طرق.. تمر بمرحلة تغير جذرى كى تتحول إلى دولة مؤسسات يقودها ولى العهد الشاب الذى يقود رؤية 2030 الهادفة للقيام بالكثير من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، ورغم تأكيد المسئولين السعوديين أن الأوامر التى صدرت باعتقال شخصيات هامة ونافذة فى المملكة تهدف إلى تطهيرها من الفساد، فإن الكثيرين يرونها إشارة إلى المكانة القوية التى وصل إليها «بن سلمان» منذ توليه منصب ولى العهد فى يونيو الماضى بعد عزل ابن عمه محمد بن نايف، مما تسبب فى تأجج الصراع الكامن على السلطة داخل العائلة الحاكمة، غير أن الإطاحة بالأمير متعب بن عبدالله، قائد الحرس الوطنى، وهو آخر أبناء قبيلة «شمر» ربما يشعل معارضة القبائل ومن بينها عشرات الآلاف من المقاتلين الذين يشكلون القوة العسكرية المدربة والخبيرة؟! والتى فتحت شهية الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعى لمهاجمة الحملة الشرسة التى يقودها ولى العهد واصفين إياه بـ«الدب الداشر»، بما يعنى أنه خرج عن كل الأعراف والتقاليد التى تتبع خطاها المملكة السعودية منذ قيامها، الأمر الذى ينذر بدخول السعودية حقبة طويلة من عدم الاستقرار الداخلى فى ظل تصاعد الصدامات الداخلية والتهديدات الخارجية، خاصة من إيران وحلفائها.