فصول جديدة فى سلسلة الانقلابات التى يقودها محمد بن سلمان.. وعد بالعودة للإسلام الوسطى المعتدل، المنفتح على الأديان والتقاليد والشعوب «لن نضيّع 30 سنة من حياتنا فى التعامل مع الأفكار المدمرة، سوف ندمرها اليوم وفوراً».. بعدها ترأس اللجنة العليا لمكافحة الفساد، أقال وزيرى الحرس الوطنى والاقتصاد والتخطيط وقائد القوات البحرية، واعتقل أعداداً من الأمراء، والوزراء الحاليين والسابقين، ورجال الأعمال، وملَّاك الإعلام الفضائى «ART، Rotana، MBC»، بتهمة الرشوة والفساد، فتح جبهتين للحرب ضد «الوهابية» و«الفساد» فى آن واحد يعكس تعجلاً لإزاحة مراكز القوى، ضماناً لانتقال -بات وشيكاً- للسلطة، من سلمان لنجله.
خطورة «الوهابية» أنها مؤسسة راسخة، توفر الغطاء الدينى للحكم، منذ تحالف محمد آل سعود أمير الدرعية مع مؤسسها محمد بن عبدالوهاب لتأسيس المملكة.. أما أهمية من اتهموا بـ«الفساد» فهى امتلاكهم لأدوات القوة؛ أهمها رؤوس الأموال «تم التحفظ على 5 تريليونات ريال»، والشركات العملاقة، والمشاريع الضخمة، بالداخل والخارج، إضافة للحرس الوطنى، القوة الموازية للجيش، الذى يدين ضباطه وجنوده بالولاء لقائده الأمير متعب، المعتقل حالياً، نجل مؤسسه الملك عبدالله رحمه الله.
إشكالية «الوهابية» ليست شأناً سعودياً فقط، بل تمس دول المنطقة، خاصة مصر، الوهابيون اعترضوا على إرسال عبدالعزيز آل سعود لنجله سعود للدراسة بمصر، باعتبارها «بلاد أصنام وشرك»، لكثرة الأضرحة والمقامات فيها، محمد على -بحسه الاستراتيجى- أدرك خطورتهم، فأرسل حملة بقيادة إبراهيم باشا للقضاء عليهم، سيطرت على معظم المدن، لكن الجيوش لا تهزم الأفكار المتطرفة.. عداؤهم جسّده التعرض للمحمل المصرى وكسوة الكعبة، والاعتداء على حامليها بمكة «1926».. تغلغلوا بمصر من خلال الجمعيات الأهلية، عبدالناصر جمد بعضها، وطارد الإخوان من رجال الأزهر وبعض رجال التعليم، فلجأوا للعمل بالجزيرة العربية، سقطوا فى شرك الوهابيين، وعادوا ليطبعوا بصماتهم على الأزهر ومناهجه، ويعبئوا طلاب الجامعات، فتشكلت الجماعات الإسلامية، السادات أطلق لهم العنان لموازنة التيار اليسارى، فراح ضحية غدرهم، وتوسعت الجمعيات إلى حد تمويل «السنّة المحمدية» وحدها بـ256 مليون دولار خلال «2011»، مما يؤكد عمق الاختراق.
الوهابيون نجحوا فى خلق بيئة حاضنة للتطرف بامتداد المملكة، تمكين رجال الدين فى إيران «1979» شجعهم على محاولة الانفراد بالسلطة، جهيمان العتيبى قاد الانقلاب فى نفس العام، بهدف تنصيب خليفة، وإلزام الناس ببيعته، الدولة أحبطته بصعوبة، لكنها سعت لاحتوائهم، وتحويلهم لحائط صد لرياح الثورة الدينية؛ شجعت تصدير الوهابية للخارج، منعت الاختلاط، حظرت الحفلات الموسيقية، أغلقت دور السينما، ومنعت قيادة المرأة للسيارات، أو الظهور فى تليفزيون الدولة، ووسعت صلاحيات الشرطة الدينية.. بريطانيا استغلت «الوهابية» فى حربها الطائفية لتفكيك الدولة العثمانية، وأمريكا وظفتها كأداة حشد للجهاديين ضد الوجود السوفيتى بأفغانستان، وضد التغلغل الشيعى بالمنطقة، ولكن عمق الخطاب التكفيرى لدى التنظيمات المسلحة المنبثقة عن الفكر الوهابى دفع «القاعدة» و«داعش» إلى مهاجمة الأهداف الغربية فى دول العالم، بل فى عقر دارهم فى «سبتمبر 2001»، وما أعقبه من عمليات إرهابية بالداخل الأمريكى والأوروبى، ما دفع واشنطن للانقلاب عليهم.
الإجراءات السعودية تتسم بالصرامة والاندفاع، الإطاحة بمقرن ولى العهد «أبريل 2015»، أعقبها توقيف الشيخين سلمان العودة وعوض القرنى، بتهمة التشدد والارتباط بالإخوان، عزل محمد بن نايف من ولاية العهد «يونيو 2017»، أعقبته حملة اعتقالات واسعة، تقدر المصادر أنها طالت قرابة 1300 من المدنيين، ونحو 1000 عسكرى من مختلف الرتب، و43 من العائلة المالكة، و39 من القضاة والدعاة ورجال الدين والمفكرين والعلماء والوزراء السابقين، وتحديد إقامة عشرات الأمراء.. عادل الجبير وزير الخارجية أكد فصل آلاف الأئمة المتطرفين.. ووكالة الأنباء السعودية أشارت إلى رصد «رئاسة أمن الدولة» لأنشطة استخبارية لصالح جهات خارجية، تستهدف إثارة الفتنة والمساس باللحمة الوطنية.. و«الفساد» سلاح يستهدف الجميع.
بن سلمان يحاول إعادة ترتيب مؤسسات السلطة، عين شباباً بالمناصب العليا، اختار شقيقه خالد «فى العشرينات» سفيراً بواشنطن!! والفريق عسيرى نائباً لرئيس المخابرات العامة، والأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف وزيراً للداخلية، وشكل مركزاً للأمن الوطنى، تابعاً للديوان الملكى، يسعى لتكريس كافة الصلاحيات الأمنية والعسكرية والاقتصادية فى يده.. قلص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، تمهيداً لإلغائها، أسس هيئة الترفيه، ويقوم ببناء منتزه ضخم على غرار «سيكس فلاجز» الأمريكى، ومدينة سياحية على شاطئ البحر الأحمر، لن تلتزم بالقواعد الصارمة لملابس المرأة، مكن النساء من ممارسة الرياضة، وخفف القيود المفروضة على الاختلاط، ووجه الملحقيات الثقافية السعودية بإحراق أطنان من الكتب المتشددة التى تطبع وتوزع عبر العالم، مثل مؤلفات ابن تيمية، وموسوعة «الدرر السنية فى الأجوبة النجدية ونحوها».. الأمير يهيئ المناخ لثورة ثقافية، تتضمن خطاباً دينياً معتدلاً، يتعايش مع الآخر، ينبذ التطرف ويؤمن بالتسامح، وهو ما يتنافى وقناعات قادة المؤسسة الدينية الوهابية، إضافة لاستهداف من يُخشى معارضتهم لانفراده بالسلطة، وكذا العناصر المتعاطفة مع قطر.
بن سلمان أدرك أن المؤسسة الوهابية تفرض قيوداً على مستقبل المملكة، فقرر تفكيكها، بالمواجهة المباشرة، وتغيير المناهج التعليمية، وهو متفائل بالنجاح لتقديره بأن أكثر من نصف رجال المؤسسة يمكن إقناعهم بالتواصل والحوار، ومعظم الباقين مترددون أو ليسوا فى وضع يسمح لهم بالتسبب فى مشكلات، باستثناء نسبة قليلة من المتشددين، يتخلص منهم تباعاً.. الوهابيون، على النقيض، يشعرون بالثقة، لأنهم شركاء فى نشأة المملكة، ومواجهتهم ربما تمس أسس قيام الدولة، وتهدد بإسقاطها.. تماسك الأسرة الحاكمة الذى ظل صماماً لأمن النظام عبر السنين، يتعرض للانهيار، نتيجة لمعارضة البعض لاختراق القواعد العرفية المستقرة لتوريث السلطة، وما صاحب ذلك من اعتقالات، وتحديد إقامة، ومصادرة ثروات، دون تقدير لتبعات احتمال تحدى الأسرة الحاكمة، أو بعض القبائل للانفراد بالسلطة، رغم ضعفه.
المثير للقلق أن فتح بن سلمان لكل تلك الجبهات الداخلية يتزامن مع عجزه عن حسم حرب اليمن عسكرياً، وجمود الاتصالات المتعلقة بالتسوية السياسية، وتهديد الحوثيين الجدى لعمق أراضى المملكة، فى وقت تفرض نفسها -كطرف مُحَرِض- على مسار الأزمة اللبنانية، ما قد يؤثر على الجبهة الداخلية، ويضعف النظام الحاكم فى مواجهة عداءاته المتعددة.. المعركة ضد «الوهابية» قد تدعم معركتنا لتجديد الخطاب الدينى، ولكن هل تحسبنا لتأثير معركة «الفساد» على الاستثمارات والمشاريع السعودية بمصر، التى تقدر بالمليارات؟!.. إدارة المملكة لصراعاتها ومؤسساتها تعانى قصوراً فادحاً، وما لم يطرأ تطور جوهرى يغير قواعد اللعبة فالأمر جلل.. قد يطيح باستقرارها، واستقرار المنطقة.