فى زمن التمكين الإيرانى، أو هكذا يتعاملون فى طهران مع اللحظة الراهنة، بعد العديد من محطات الانتصار الذى تحقق على طول الطريق العراقى السورى، وصولاً إلى لبنان. فى هذا الفصل الزمنى الجديد كلياً بمعطياته الاستراتيجية التى تخيم على الإقليم، وعلى غرار رجال السياسة، بدأ القادة العسكريون وضباط الحرس الثورى الإيرانى فى تدوين مذكراتهم، فعندما قدم قائد الحرس محمد على جعفرى مذكراته، عد هذا بداية لينطلق بعدها غيره من قيادات الحرس لتدوين مذكراتهم. بعد التدخل الإيرانى فى سوريا بدأت تنتشر كتب تقدم بصورة استعراضية الدور الإيرانى هناك، وتكتسب تلك المذكرات أهميتها كونها تقدم معلومات مغايرة، وروايات لمشاهد ظلت طوال سنوات المحنة السورية خلف غبار الأحداث اليومية المتلاحقة.
العميد حسين همدانى، من مؤسسى قوات الحرس الثورى الإيرانى، شغل منصب قائد «فيلق محمد» التابع للحرس، وظل مسئولاً للحرس فى طهران العاصمة لسنوات طويلة، امتدت ليلعب فيها دوراً بارزاً فى قمع الاحتجاجات التى شهدتها إيران عقب انتخابات الرئاسة 2009م. أرسل همدانى إلى سوريا لمساعدة النظام فى عام 2012م، قبل أن تعلن طهران مقتله فى ريف حلب فى معركة مع تنظيم «داعش» أكتوبر 2015م.
نشرت إيران عدداً من الكتب التى احتفت بـ«همدانى»، ربما أهمها ما حمل عنوان (رسائل الأسماك) لمؤلفه «كلعلى بابايى»، وفيه يوثق شهادة مفصلة شديدة الأهمية لـ«همدانى»، تمثل نقلاً بانورامياً للسياسة الإيرانية فى سوريا، وما هى الظروف التى اتخذ فيها قرار التدخل العسكرى الإيرانى، ومن هم أصحاب هذا القرار. وصدر الكتاب عن دار نشر «انتشارات بعثت» وهى دار تابعة مباشرة للحرس، وصنف ككتاب احتفالى بما قدمه همدانى، واعتمد بشكل رئيسى على مقابلات شخصية مطولة جرت بينه وبين محرر الكتاب، وأعلن عنه فى ذكرى الأربعين لوفاته وانتشر بصورة واسعة فى احتفاء كبير بالذكرى السنوية له فى أكتوبر 2016م.
يروى فيه همدانى الطريقة التى أرسل بها إلى سوريا، فيقول: يوم الثالث من يناير 2012، كنت وقتها مسئولاً للحرس فى طهران، وكانت آثار فتنة عام 2009م والمشكلات الناشئة عنها لا تزال باقية، وكنا فى الوقت نفسه نقوم بتوسعة «فيلق محمد» ليصبح موجوداً فى 22 موقعاً بدلاً من ستة مواقع، وبينما كنت غارقاً فى هذه المهمات، استدعانى القائد العام للحرس الثورى محمد على جعفرى، وبعد تقديم تقرير عن حال الحرس فى طهران، سألنى: هل تذهب إلى سوريا؟ توقفت لبرهة وسألته: لماذا أذهب إلى سوريا؟ قال: النظام والجيش السورى طلبوا العون والمساعدة، وأنت تذهب إلى هناك بصفتك قائداً فى الحرس. واتصل القائد بالجنرال سليمانى ليبلغه بموافقتى على الذهاب لسوريا.
فى اليوم الأول لـ«همدانى» بدمشق يذكر أنه قام بزيارة مقامى السيدة زينب والسيدة رقية، وفى الليلة ذاتها نظم سليمانى اجتماعاً جرى خلاله إسناد مهمة إدارة الأمور فى سوريا إلى العميد الهمدانى. ويروى الأخير فى الكتاب للمحرر عن الجلسات التى عقدها برفقة شيخ يسميه فى مذكراته الشيخ محسن، وكيف جرى تنظيم 500 شاب شيعى و2000 من العلويين وجرى تسليحهم. ويكشف الكتاب النقاب عن لقطة مثيرة بصراحة كاملة، أنه كان هناك فى البداية معارضة لدى المسئولين فى سوريا تجاه التدخل الإيرانى، على الرغم من طلب العون الذى أبداه الرئيس بشار الأسد. فيقول همدانى: إن المسئولين الأمنيين فى سوريا، كانوا يعارضون بشكل واضح تدخلنا فى الجيش، حيث كانوا يقولون لنا: نريد منكم أن تزودونا بالإمكانيات فقط، وكنا نقول لهم: لا.. نريد أن نهديكم تجربة ثمانى سنوات من الحرب، وتجربة التعامل مع الأزمات وأعمال الشغب. فالعدو الذى خطط هذه المؤامرة لبلادكم هو نفسه الذى حاك المخططات ضدنا.
يروى همدانى، فى كتابه المثير، أنه فى الوقت الذى كان فيه المسئولون فى سوريا يعارضون تدخل الإيرانيين، ولا يسمحون لهم بالعمل، جرى تقديم تقرير للمرشد الأعلى على خامنئى، طلب همدانى فيه الإذن بالعودة إلى إيران وكتب فيه نصاً: «لأنهم لا يستفيدون من وجودنا بالشكل الصحيح». وجاء رفض خامنئى حاسماً، وأصدر أمراً لـ«سليمانى» ذكر فيه: لا يجب أن تعودوا؛ سوريا بلد مريض، لكنه لا يعرف أنه مريض، وهذ المرض يجب شرحه وتفهيمه للساسة ورجال الدولة السورية. وإذا رفض هذا المريض الذهاب إلى الطبيب فيجب أن تأخذوه أنتم إليه، فهو لن يخبر الطبيب بمرضه، وإذا رفض أخذ الذى وصفه الطبيب عليكم أن تجرّعوه الدواء بأنفسكم، وتراقبوه لتتأكدوا أنه يأخذ الدواء حتى يشفى. وبعد أوامر المرشد خامنئى على هذا الصعيد، لم يعد همدانى إلى طهران واستغرق الأمر ثلاثة أشهر، قبل أن تبدأ إيران فى تدريب القوات العسكرية السورية.
يذكر همدانى أنه قضى تلك الأشهر الثلاثة فى إعداد وثيقة استراتيجية للحالة السورية، وضع فيها أكثر من 100 خطوة تحتاج إلى التنفيذ، كما وضع عدداً من السيناريوهات المتوقعة حول سوريا. ثم حمل هذا فى اجتماع مع سليمانى وسلمه إياه، وبعد جلسة استمرت لساعات قام خلالها بإجراء بعض التعديلات على الخطة، ووافق عليها كلها. لكنه قال: إن المرشد أمر بأن تكون السياسات الكلية لمحور المقاومة وسوريا تحت إشراف الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله!
المذهل فى الأمر أننا على ما يبدو قد خاصمنا الاطلاع والرصد والتحليل الصائب، حتى مرت سنوات المحنة السورية أمام الجميع، بما فيها من انكشاف كامل لآلية إدارة إيران لخطواتها فى الإقليم، ومع ذلك، وفى الحلقات المقبلة، سنتابع كيف أدار حسن نصرالله المشهد بهذا التكليف المباشر من المرشد الأعلى، المعلومات أصبحت بقدر معقول من الجهد يمكن إخضاعها لتقديرات موقف متنوعة، قبل الدخول أو المراهنة على مستنقع لا يستقبل سوى الأسماك المغيبة أو السابحة على غير هدى.