الشهادة الثانية لمعاوية بن أبى سفيان، وهى شهادة شهدها فى حق نفسه، وفى حق من عاصروه من المسلمين، وعاشوا فى ظلال تجربته. شهادة توضح إدراك هذا الصحابى للتحول الذى أصاب الجميع، حين استعبدتهم الدنيا. يقول معاوية: «أما أبوبكر فلم يُرد الدنيا، وأما عمر فأرادته فلم يُردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن». من اللافت أن الرجل كان يزن نفسه بصورة موضوعية حين يقارن حكمه بحكم أبى بكر وعمر من قبله.
وانطلاقاً من هذا الوعى العميق بالذات، استفرد معاوية بالحكم، ونسى دم عثمان، وثأر عثمان، وقميص عثمان، وأصابع نائلة (زوج عثمان)، بعد أن استهلكت هذه الذرائع غايتها وخلص له الملك، وكان يستدعى موضوع عثمان فقط فى الحالات التى يستهدف فيها تأكيد شرعيته كحاكم، كما حدث عندما سمع أن السيدة عائشة تقول حديثاً كانت قد نسيته يؤكد شرعية تمسك عثمان بالحكم، وعدم النزول على رغبة من أرادوا خلعه. يشير صاحب «البداية والنهاية» إلى هذا الأمر قائلاً: «عن عائشة رضى الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فجاء، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان، أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلمه أن ضرب منكبه، وقال: يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه، فلا تخلعه حتى تلقانى، ثلاثاً، فقال لها معاوية: يا أم المؤمنين!، فأين كان هذا عنك؟ قالت نسيته!». والحديث بهذا المعنى يسهم فى تأكيد شرعية عثمان بن عفان -أول خلفاء بنى أمية- ويثبت أن من ثاروا ضده وخرجوا عليه منافقون بغاة، مما يؤكد بالتبعية شرعية ولى دمه ووريثه معاوية بن أبى سفيان، وشرعية خروجه على «على بن أبى طالب» وحربه له.
معاوية هذا نسى عثمان وثأر عثمان بمجرد أن تربّع على الحكم. يحكى صاحب «البداية والنهاية» واقعة لافتة للغاية فى هذا السياق يذكر فيها «أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها، بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه رجال من قريش -يقال كان فيهم الحسن والحسين- فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لى حاجة فى هذه الدار، فانصرفوا، ودخل، فسكّن عائشة بنت عثمان وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخى: إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فان أعطيناهم غير ما اشتروا منا، سعوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندرى أتكون لنا الدائرة أم علينا؟، ولأن تكونى ابنة عثمان أمير المؤمنين، أحب إلى أن تكونى أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك». كلام لا يصدر إلا عن سياسى قدير يفهم بعمق فى الحسابات السياسية.
سُئل معاوية ذات يوم عن السر فى تربّعه على حكم الشام 40 سنة، دون أن تحدث فتن، رغم أن الناس كانت تغلى، فرد قائلاً: «إنى لا أضع سيفى حيث يكفينى سوطى، ولا أضع سوطى حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها». ليت ساسة المسلمين يتعلمون «الحساب» من هذا الرجل.