العاشق هو جبران خليل جبران، الذي ولد بلبنان في العام 1883، وسط ظروف صعبة بحياة أسرية سيئة، كان الفقر يضايقه بسخف شديد وكانت سمعة أبيه غير الطيبة تفسد عليه أيامه هو وأسرته المكونة من أختين وأخ وأم مسكينة تزوجت ثلاث مرات لظروف قهرية، يسجن والده فترحل به أمه وبإخوته إلى بلاد المهجر وأرض الأحلام «أمريكا» وهناك يتم تعليمه وإدخاله المدرسة بعدما منعه فقره في السابق من التعلم، وبنهم وشغف كبيرين يقبل «جبران» على علوم الأدب وعلم اللاهوت والفلسفة ويتعلم الرسم أيضًا ويبرع به.
يعود مع أسرته للبنان حيث يموت معظم أفرادها بداء السل، من بعد ذلك لا يعود لأمريكا أبدًا، يحترف البقاء هناك ويكتب في جميع فروع الأدب باللغتين العربية والإنجليزية. يذيع صيته إلى أن يصل ذاك الصيت إلى قلب بعيد، قلب يعيش في القاهرة، قلبها مي «مي زيادة».
مي زيادة ولدت بالناصرة الفلسطينية لأب لبناني وأم فلسطينية أرثوزوكسية، ثم عاشت بلبنان وتلقت تعليمها هناك، والتحقت بالجامعة في القاهرة، حين هاجرت إليها هي وأسرتها الصغيرة، وهي الابنة الوحيدة والمدللة.
كانت «مي» مثالًا فريدًا لامرأة عصرية مثقفة ومتعلمة تعليمًا جيّدًا، فقد اتقنت تسع لغات وكتبت أجمل إنتاجات الأدب، كانت الجرائد والمجلات تتسابق على نشر مقالاتها.
مزجت «مي» بين الجمال والثقافة والحضور وبذاك حضرت في قلب كل من عرفها أو سمع عنها، هي معشوقة ومحبوبة وحلم معظم أفراد صالونها الأدبي الأسبوعي في القاهرة والذي كان يضم كبار هامات الصحافة والأدب والشعر.
جاء يوم قرأت به لكاتب المهجر ذائع الصيت «جبران»، كانت رواية «الأجنحة المتكسرة»، وحدث على البعد بين القاهرة حيث تسكن وأمريكا حيث يعيش جبراننا تماسًا إنسانيًا فريدًا، أتت «مي» بورقة وقلم وقررت كتابة رسالة إلى هذا «الجبران» تناقشه في روايته وأفكارها المتحررة التي لا توافقها هي الآنسة الأديبة الشرقية المحافظة والمتدينة، وقالت له ما تؤمن به هي من قناعات فكرية وأخلاقية تصطدم وحريته التي اكتسبها من خلال حياته الأمريكية.
توالت الرسالات التي تخللها التعبير عن الإعجاب المتبادل بينهما كما كان هناك الاختلاف والخلاف والمناوشات أحيانًا، زادت الرسالات وطال أمدها وتغيّرت نبراتها من الرسمية الشديدة إلى القرب وانتهت بالحميمية الطاهرة الشريفة، انجذبت «مي» لذاك الحب العذري الخيالي، حتى أعماها عن كل من حولها من معجبين مسحورين مفتونين بالأديبة الحسناء ذات العلم والرقي والبهاء.
أما أديبنا الكبير فكان يحيا حياته بشكلها العادي يصادق ويتعرف ويكون العلاقات النسائية في بلاد المهجر، لكن مراسلاته مع «مي» كانت شيئًا آخر. كانت ذاك الجزء الخاص جدًا والصادق جدًا وذات الطبيعة المختلفة جدًا جدًا، فمي كانت طعم بلاده ورائحتها في غربته الطويلة، فالمغترب دائمًا يشتاق بلاده ويشتاق حبًا من أرضها، يشتاق حبيبًا يتحدث لغته ولكنته ويتذوق نكاته ويستسيغ طعامه وطعام بلاده، إن الحبيب في الغربة وطن.
صارحها «جبران» بحبه بعد فترة مراسلات طويلة، وردت عليه «مي» بلهفة متحفظة ومشاعر شرقية مخنوقة تحجم الحب وتخافه تهاب الوقوع والتصريح العلني به، مرّت السنوات ومعها الرسائل وكانت «مي» كثيرة التوتر، فذاك العاشق لم يطلبها للزواج، أضاعت «مي» جميع فرص الزواج وتوترت أحيانًا علاقتها بـ«جبران». كان التوتر يتذبذب بين الشجار والخلاف أو الانقطاع والجفاء الجاف، ويعودان يتصالحان، يحبان ويتصارحان، فالشوق جارف والولع شاغف والحرمان دائمًا كان حاضرًا، وأيضًا لم يطلبها «جبران» للزواج.
لا أحد يعرف على وجه التحديد، لما لم يرغب «جبران» بالزواج منها أو بالزواج أساسًا، أهو بسبب اعتلال صحته أم بسبب مشاكله الاجتماعية طفلًا، والتي ألقت بظلها عليه وعلى حياته فأكسبتها تميزها وثرائها وزخمها بجانب عقدها ووجعها والذي جعله أحيانًا يدّعي أنَّه ابنًا مهمًا لأحد الأسر الأرستقراطية كذبًا!.
استمرت مراسلات العاشقين عشرون عامًا وجمع بينهما حب من نوع خاص فريد، «حب بالمراسلة» يضرب مثلًا فريدًا في عذرية المشاعر وسموها الكبير بشكل أتعب المحبين وأشقاهم.
يمرض «جبران» وتعتل صحته ويموت شابًا في الثامنة والأربعين، وتكون «مي» في الخامسة والأربعين، تنهار وتهتز نفسها وقواها الذهنية وبعد الحبيب بفترة قصيرة جدًا يموت أبواها أيضًا، وتفقد الأديبة الجميلة جزءًا من عقلها وتعتل روحها، فتعود لأقارب لها في لبنان والذين يعلنون الحجر عليها بعد أن حجر على مشاعرها أعوام وأعوام سابقة.
تعيش فترة بالعصفورية (مشفى المجانين) ولكن ينتقد هذا الوضع بعض الأدباء ويسعون لإنقاذها بإيداعها مصحًا خاصًا وتتعافى قليلًا ثم تقرر السفر إلى إنجلترا ومن بعدها إيطاليا ولكن أحوالها لا تستقيم أيضًا، من ثم تقرر العودة إلى القاهرة حيث تموت وحيدة، ويحضر جنازتها ثلاث أفراد فقط من أصدقائها الأدباء، بعد أن كان صالونها الأدبي يتمنى حضوره الجميع، تموت «مي» ويموت معها حبها العذري عديم الأمل بالوصال من معشوقها ومعشوق العالم «جبران» والذي علم الدنيا الحب والفلسفة والحكمة العميقة.
أجنت «مي» بسبب حزنها على حبيبها، أم حزنًا على عمرها الذي ضاع هدرًا!، لا أحد يعلم، كما أن لا أحد يعلم ما الذي جعلها لا تسافر إليه حيث كان، وقد سافرت من بعد موته بالفعل لبلاد أخرى!، وما الذي جعله لم يتزوجها مع أن ظروفهما كانت مناسبة جدًا من حيث الأصول العرقية والديانة! وتبقى ألغاز العشاق بينهم وبين القدر تحيرنا وتزيدنا شجنًا ووجدًا وأحيانًا ضجرً!.