إن كنتم أحبتى لم تجربوا بعد تغريدات القلوب فاسمحوا لى أن أحدثكم عنها وأن أسمعكم بعضاً منها وأعرفكم بملوكها الذين خلدهم التاريخ القديم والحديث بتلك التغريدات. والتغريد هو صوت الطيور وتحديداً بعض أنواع العصافير أرق المخلوقات على الأرض فهو صوت الحسون والكنارى والبلبل والعندليب. والطريف أن أجمل التغريدات تكون من ذكور تلك الطيور، وتحديداً وللدقة كما يقول علماء الطبيعة تكون نداءً للإناث وتدليلاً لها لتقبل التزاوج ولتستمع لأرق الأصوات والنداءات. أحدثكم الْيَوْمَ عن الشعر والشعراء، عن لغة العواطف والخيال، فالشعر للحقيقة له صلة وثقى وقرابة بكل ما يسعد فى الحياة ويمنح البهجة والمتعة السريعة أو الألم العميق للعقل البشرى. فهو اللغة الخيالية التى يتمسك بها القلب مع ما يملكه من عواطف وإحساس عميق. ومن الناحية المعنوية فإن الشعر مأخوذ من كلمة الشعور، أى الإحساس، وعادة فإن الشاعر يحاول من خلال كلماته إيحاء أو زرع بعض الأحاسيس والمشاعر فى المتلقّى.
وقد أفرد ابن خلدون مساحات كبيرة فى أحد مؤلفاته عن الشعر فعرفه بأنه كلام مفصل قِطعاً متساوية فى الوزن متحدة فى الحرف الأخير من كل قطعة وتسمى كل قطعة من هذه (البيت) أما الحرف الأخير فهو (قافية) ويطلق على جملة كل هذه التسميات قصيدة. وللشعر أنواع فهناك الشعر العربى وأيضاً العامى وهو الذى ينسب للغة العامية التى نتحدث بها، ومن أمثلة الشعر العامى الزجل فى بلاد الشام والموال فى مصر والشعر النبطى فى شبه الجزيرة العربية. وعادة ما تخرج الأغانى الشعبية من الشعر العامى، وتلك الأغانى عادة تعبر عن عادات وتقاليد الشعوب.
ولدينا من مبدعى مصر أهم شعراء العامية فى الوطن العربى، والذين وحدوا المشاعر العربية الوطنية والعاطفية بإبداعاتهم، صلاح جاهين الذى أطلق عليه لقب (ابن الشعب الضاحك) وعبدالرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وبيرم التونسى. وفى علم الموسيقى والغناء يصنف الشعر الأعمال الموسيقية طبقاً لكلماتها فيوجد (السناد) وهو الغناء الثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات ويعتمد على القافية المطلقة، أما (الهزج) فهو الغناء الخفيف الذى يرقص عليه ويلف بالدف والمزمار، أما (الزجل) فهو اللعب والجبلة والتطريب ورفع الصوت وسُمّى بذلك بسبب رفع الصوت فيه. وأما (الموال) فقد انقسم إلى موال مصرى وهو خماسى، وموال بغداد وهو سباعى.
كما يوجد تصنيف علمى لأنواع الشعر فهناك الملحمى والقصصى والمسرحى والغنائى، كما أن لكل نوع أغراضاً عرف بها مثل المدح والغزل والرثاء والفخر والهجاء والوصف والاعتذار. ويقول علماء الاجتماع فى حديثهم عن الشعر إنه يعتبر بصفة عامة مرآة لثقافة المجتمع الذى ينتجه حيث إنه لكل زمان شعراؤه ولكل أمة أدباؤها. ومن أجمل ما كُتب عن الشاعر وتغريدات قلبه أنه ذلك الشخص الذى يموت إذا لم يكتب قصيدته حيث يشعر بها وتتملكه لأن الشعر ينبع أولا وأخيراً من المعاناة الشخصية للكاتب فهو لغة الروح وليس لغة العقل كما أنه ليس من المطلوب أن يكون الشاعر واعظاً أو خطابياً بل المطلوب منه أن يكون صادقاً وجريئاً. ولعل ما فعله الشاعر المصرى إبراهيم ناجى فى أشهر قصائده (الأطلال) التى غنتها أم كلثوم عندما كتب كلماتها على تذكرة طبية تحمل اسمه حيث كان طبيباً وعندما هاجمته تغريدات قلبه لم يجد ما يكتب فيها الكلمات إلا تذكرة المرضى لأن تلك التغريدات تصيب صاحبها بآلام مبرحة إن لم تخرج للنور حتى إن بعض المبدعين يشبهونهم بآلام المخاض عند الأمهات وقت استقبالها لوليدها.
أما أطرف ما يمكن أن نعرفه عن تغريدات القلوب أن لها تاريخاً طويلاً فى تاريخنا العربى القديم والحديث، ولأنه من عاداتنا وتقاليدنا المعروفة كتمان العشق والهوى عن الآخرين وإخفاء المحبوبة عن العيون؛ فقد صنف شعراء العرب الحب فى درجات شعرية فهناك الهوى والصبوة والهيام والغرام، حيث تعبر كل لفظة عن مرحلة من مراحل الحب. فليس غزل العذارى واشتياق الروح للروح كمثل الغزل الإباحى أو الغزل الحسى. وبصفة عامة فإن الغزل الإباحى لم يجد رواجاً بين العرب على الأقل ليس بالقدر الذى لاقاه الغزل العذرى لعدة أسباب أهمها أن الشعر جاب قصور الخلفاء والملوك فلم يكن من اللائق استخدام الشعر الجنسى. ومن أهم شعراء الغزل الإباحى الماجن فى تاريخنا عمر بن أبى ربيعة والأحوص والخليفة الوليد بن يزيد.
أما الشعر العربى الحديث فيمكن القول إنه وُلد من رحم الشعر الأوروبى وتأثر الشعراء العرب لرمزية الشعراء الأوروبيين مثل شارل بودلير وفرلين ومالازميه والشاعر الأمريكى إدغار حيث كان لترجمات أشعار هؤلاء المبدعين تأثير على شعرائنا، وظهر ذلك جليًّا عندما بدأ الشعراء اللبنانيون فى الخروج عن المألوف فى القصيدة العربية وفى مقدمتهم كان سعيد عقل وأديب مظهر، واستمر الرمز الشعرى فى المنطقة العربية ابناً شرعياً لظروف القمع السياسى والاجتماعى فجاءت إبداعات الشاعر الفلسطينى محمود درويش والمصرى محمد عفيفى مطر والعراقى بدر شاكر وعبدالرازق عبدالواحد. وإذا أردنا أن نتحدث عن أشهر شعرائنا فى العصر الحديث الذين اشتُهروا بالشعر الصريح دون تورية أو رموز فلا بد أن نذكر نزار قبانى الذى (فصّل من جلد النساء عباءة)، واحتمل نقد الجميع وظل يتغنى بعشقه للنساء حتى سُمّى «شاعر الحب والمرأة» كما أنه لم يُخفِ كراهيته لتقاعس وضعف الحكام العرب فكتب أشهر قصائده (متى يعلنون وفاة العرب) لتعيش كلماته، أو فلنقل تغريدات قلبه الصريحة، وتعلمنا أن التاريخ إنما يخلده الإبداع وتغريدات القلوب.