الشهادة الثالثة للحسن بن على بن أبى طالب، سبط النبى، صلى الله عليه وسلم. لم يكن ميالاً إلى أن يتولى أبوه الحكم بعد اغتيال «عثمان»، رضى الله عنه، لكنه قاتل إلى جوار «على» عندما وجد فيه عزماً على مواجهة معاوية. وبعد أن اغتيل على بن أبى طالب على يد الخارجى عبدالرحمن بن ملجم، وجد «الحسن» نفسه قائداً لمعركة لم يخترها، بايعه قائد جيشه قيس بن سعد بن عبادة خليفة للمسلمين، وتحرك نحو الشام بجيش ضخم، لكن الله شاء أن تجِد أحداث كثيرة أثناء مسير الجيش قلبت المشهد.
يحكى صاحب «البداية والنهاية» تفاصيل ما حدث، ويشير إلى أنه: «لما اجتاز جيش الحسن بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بين يديه، فبينما هو فى المدائن معسكراً بظاهرها، إذ صرخ فى الناس صارخ ألا إن قيس بن سعد بن عبادة قد قُتل، فثار الناس فانتهبوا أمتعة بعضهم بعضاً، حتى انتهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطاً كان جالساً عليه، وطعنه بعضهم حين ركب، فكرههم الحسن كراهية شديدة وركب فدخل القصر الأبيض من المدائن، فنزله وهو جريح، وكان عامله على المدائن سعد بن مسعود الثقفى، أخا أبى عبيد، صاحب يوم الجسر، فلما استقر الجيش بالقصر، قال المختار بن أبى عبيد لعمه سعد بن مسعود: هل لك فى الشرف والغنى، قال ماذا؟. قال تأخذ الحسن بن على، فتقيده وتبعثه إلى معاوية، فقال له عمه: قبّحكم الله وقبّح ما جئت به، أغدر بابن بنت رسول الله؟، ولما رأى الحسن بن على تفرق جيشه عليه مقتهم، وكتب عند ذلك إلى معاوية بن أبى سفيان يراوده على الصلح بينهما، وحقن الدماء بين المسلمين، فاصطلحا على ذلك، واجتمعت الكلمة على معاوية، وقد لام الحسين لأخيه الحسن على هذا الرأى، فلم يقبل منه».
قرر الحسن الخروج من المشهد برمته والتصالح مع معاوية على تنازل الحسن له عن الإمرة. وقد جوبه هذا التنازل بمعارضة شديدة من المحيطين به، فخرج إليهم وخطب فيهم -كما يحكى ابن قتيبة، صاحب كتاب الإمامة والسياسة- وقال: «أيها الناس إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكان لى فى رقابكم بيعة تحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية وبايعته فبايعوه، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار إلى معاوية». ويكاد يكون النص السابق هو النص التأسيسى لمفهوم قدرية الحاكم الظالم، وأنه ربما يكون فتنة أو عقاباً من الله، وأن على الناس أن يصبروا عليه، لأن الخروج عليه يمكن أن يؤدى إلى مقتلة أعظم.
ويشير صاحب الإمامة والسياسة إلى أن «سليمان بن صرد» دخل على «الحسن»، فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين، وسأله كيف تنازل عن الخلافة ووراءه مائة ألف من العراق غير من يؤيده من أهل البصرة والحجاز، فرد عليه الحسن رداً طويلاً، من أبرز ما جاء فيه «أشهد الله وإياكم أنى لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر لله، والزموا بيوتكم، وكفوا أيديكم، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، مع أن أبى كان يحدثنى أن معاوية سيلى الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر، إن الله لا معقب لحكمه، فوالله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلىّ من أن تعزوا وتقتلوا».