ثمة أربعة أخطاء تهيمن على رؤية الدولة لقطاع الإعلام، وهى أخطاء تكلفنا جميعاً الكثير، وتأخذنا إلى سياسات غير رشيدة، وتحرفنا عن الطريق الصحيحة.
أول هذه الأخطاء يكمن فى اعتقاد بعض مَن فى موقع القرار أن الدرجة المحسوسة من التنوع والديناميكية التى ميّزت الأداء الإعلامى فى السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك، وهامش حرية الرأى الذى اتسع نسبياً آنذاك، تسببا فى إطاحة النظام، وذهبا بالرئيس الأسبق إلى السجن.
إن ذلك الاعتقاد خاطئ بكل تأكيد، ليس لأن نظام مبارك لم يحرر قطاع الإعلام تحريراً كاملاً أبداً، وظل قادراً على التحكم المركزى فى درجة الانفتاح والتعدد والتنوع، وكانت مصر خلال حكمه تُصنَّف باعتبارها دولة غير حرة إعلامياً، فقط، ولكن أيضاً لأن الهوامش النسبية التى تركها مبارك متاحة، وانعكس تأثيرها فى الجدل والتدافع اللذين ميّزا برامج «التوك شو» فى تلك الفترة، وظهرا فى أداء الصحافة المطبوعة الخاصة تحديداً، كانت هى السبب الذى أطال عمر هذا النظام، وزوّده بأسباب الصمود لفترة أطول.
لم يكن بوسع نظام مبارك، بعدما فقد معظم عوامل الدعم، باستثناء المساندة الأمنية، أن يستمر عقداً ثالثاً فى السلطة من دون تلك الهوامش المحسوسة التى استفاد منها قطاع الإعلام، والتى عملت كوسائل «تنفيس» عن الغضب، وفرّغت بعض المشاعر الحادة، من خلال أدوار المساءلة والمحاسبة والانتقاد عبر صحافة خاصة نشطة، وبرامج فضائية رائجة.
الخطأ الثانى الذى يهيمن على رؤية الدولة لقطاع الإعلام يكمن فى شعورها بأنها قادرة على التحكم فى مصدر الرسائل الإعلامية التى تصل إلى الجمهور.
وهى باعتقادها هذا ترى أن بإمكانها أن «تُعقّم» المحتوى المقدَّم عبر وسائل الإعلام، ليكون خالياً من أى نزعات أو توجهات تأجيجية أو تثويرية، وليبتعد عن تصدير أى بلبلة، أو زعزعة الثقة فى السلطات، أو إثارة موضوعات جدلية، أو فتح ملفات شائكة، بما يضمن هدوءاً واستقراراً مطلوبين، لإنجاز خطة التنمية والدفاع، والخروج من الأزمات التى يُراد من خلال النفخ فيها تقويض الدولة.
إن هذا الاعتقاد أيضاً خاطئ بكل تأكيد. ليس فقط لأن «تعقيم» المحتوى الإعلامى المُقدم عبر أى منظومة إعلامية فى بلد مثل مصر عمل يؤدى إلى انصراف الجمهور عنها، والبحث عن منظومة بديلة تقدم محتوى أكثر تلبية للحاجات المتصاعدة، ولكن أيضاً لأن فكرة التحكم فى مصادر الرسائل الإعلامية انتهت تقريباً، بالنظر إلى التطورات الاتصالية الراهنة، إلا لو كان بوسعنا أن نبنى نظاماً سلطوياً شبيهاً بذلك القائم فى كوريا الشمالية.
أما الخطأ الثالث فيتصل باعتقاد بعض أوساط الحكم أن الحريات المطلوبة فى مجال الإعلام خصوصاً مسألة تخص الإعلاميين والصحفيين وحدهم.
إن هذا الفهم الخاطئ لا يقتصر على أوساط الحكم وحدها، وحتى نتوخى الموضوعية، فإن قطاعاً من الإعلاميين والصحفيين أنفسهم يعتقد مثل هذا الاعتقاد الخاطئ، كما تفهم قطاعات من النخبة والجمهور أن المكاسب الدستورية والقانونية والحقوقية التى يحصل عليها القطاع إنما تُستخدم لمنفعة العاملين فيه.
حينما تنص دساتير الدول المتقدمة على وسائل لحماية حرية الكلام، وعندما ترسى المواثيق والعهود العالمية البنود التى تصون حرية الرأى والتعبير، وحينما تسهر النظم الرشيدة على الدفاع عن حق وسائل الإعلام والصحفيين فى مناقشة القضايا محل الاهتمام بحرية وانفتاح، فإنما تفعل ذلك لحماية مصالح المواطنين والدولة فى المقام الأول، وليس الصحفيين والإعلاميين فقط.
إن حرية الرأى والتعبير تخص المواطنين جميعاً، والمؤسسات، والكيانات المختلفة التى تنطوى عليها الدولة.
والحق فى إصدار وسائل الإعلام هو حق لأصحاب المصالح وليس للإعلاميين والصحفيين وحدهم، والحق فى تداول المعلومات يخص الجمهور بأكثر مما يخص وسائل الإعلام، وإن كانت تلك الأخيرة تنوب عن الجمهور فى معظم الأوقات حين تحصل على المعلومات التى تقع فى صلب اهتمامه، وتنقلها إليه.
أما الخطأ الرابع الذى يجب أن نتخلص منه فى إطار الفهم السائد فى أوساط الحكم عن الإعلام وطبيعته ودوره وتأثيره، فهو الخطأ المتعلق بالتقييم الرسمى للرؤية الدولية لحالة الإعلام الداخلية.
وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن الدولة لا ترى أهمية للعمل على تحسين صورة أوضاع الإعلام فى مصر لتكون أكثر قبولاً فى الخارج.
لم أجد أى تعليق صادر عن طرف من أطراف الحكم عن الطريقة التى تتعاطى بها الدولة فى ملف الحريات وأثرها على صورتنا فى العالم الخارجى، وكل ما ظهر فى هذا الصدد يتعلق بأقوال تندرج ضمن تصنيف «الرطانة» والعبارات الإنشائية، والتى تقال على سبيل تسديد الخانات، وقد يتم إيرادها فى التقارير الدولية والقصص الصحفية فى الصحافة العالمية، لكن أحداً لا يصدقها أو يأخذها على محمل الجد.
ما يمكن أن يكون قد استقر فى وعى المتابعين لهذا الملف أن الدولة تعتقد أنها مستهدَفة ومحاطة بالكثير من الأزمات، وأن الإعلام يلعب دوراً سلبياً فى هذا الصدد، لأنه، بقصد أو عن غير قصد، يخدم بعض القوى المناوئة أحياناً، عبر إثارة البلبلة، وتقويض الروح المعنوية للجمهور والقوات النظامية، وإعطاء الانطباعات السلبية عن الأداء العمومى، بما يغرى باستهدافها، ويخدم المخططات المعادية.
ولأن الدولة تفهم ذلك، فإنها تريد تنظيماً للقطاع يحد من تلك «الانفلاتات»، ووفق ما يظهر فى سلوك الحُكم وخطابه، فإن الدولة ترى، فى هذا الصدد، أنه «إذا اتخذ هذا التنظيم طابعاً سلطوياً أو خشناً، أو فهمه العالم باعتباره اعتداء على حرية الصحافة والإعلام، وتقييداً للحق فى التعبير عن الرأى.. فلا بأس أبداً، لأن تلك السياسات تحمى الدولة وتمنع سقوطها، وأن تكون صورتنا فى الخارج سيئة أفضل من أن نكون دولة فاشلة».
ولذلك، فإن الدولة لا تحفل كثيراً بأن يكون خبر حجب عشرات المواقع الإخبارية على «الإنترنت» قصة رئيسية فى وسائل إعلام دولية كبرى، أو أن تكون الأخبار عن صحفيين محبوسين متداولة فى ندوات ونداءات منظمات حماية الصحفيين الدولية، أو أن تكون التحليلات عن تراجع درجة التنوع والتعدد فى المجال الإعلامى لصالح درجة من التركز الضار للملكية منشورة فى التقارير الدولية.
وقد لا تحفل الدولة أيضاً بأن يشير التقرير الأخير لمنظمة «فريدوم هاوس» إلى تراجع ملموس فى تصنيف مصر بين دول العالم لجهة حرية الصحافة والإعلام، كما أنها لا تكترث لكون مصر بين الدول التى تم تظليلها باللون الأسود فى خريطة «مراسلون بلا حدود» لحرية الإعلام فى العالم، طالما أنها تتخذ الخطوات اللازمة لحماية الدولة من السقوط.
نحن مع الدولة بكل تأكيد فى خططها لصيانة أمنها وأمننا جميعاً، ونحن نعرف أيضاً أن الأمن القومى له اعتبارات ومقتضيات يجب الوفاء بها، لكننا نعرف كذلك أن بمقدورنا أن نوفر عوامل أمننا وأن نحسّن صورتنا الدولية فى مجال حرية الرأى والتعبير فى الوقت ذاته، عبر سياسات حاذقة تتسق مع التزاماتنا الحقوقية واعتباراتنا الأمنية فى آن واحد.