إن أردت أن تعرف ماذا حدث لمصر، انظر إلى حال نسائها، وتمعن فى قيمتهن، وتمحص فى مكانتهن، ولاحظ بكل حياد ما آلت إليه أحوالهن، حالنا لا يسر حبيباً، ويسعد بالطبع كل عدو بعيد شرير أو قريب يدعى التكريم ورفع المكانة والتعامل مع تشيىء النساء باعتباره غاية المنى وكل الآمال.
آمال كوكبة عمال البناء المتجمهرة حول عربة الفول فى الحى السكنى الجديد تتمحور بحسب حديثهم الدائر حول «الحريم» «ولاد الـ....».. يشطحون بحديثهم الجهورى فى آفاق أحلام الذكورة المهدورة المختلطة بعقد نفسية مربوطة ربطة عتيدة لا أمل فى تفكيكها ولا مجال لتخفيفها، علاقة حب وكراهية تجمعهم بجنس النساء، أغلبهم كما يبدو من حديثهم متزوج ولديه أطفال، وأغلبهم كما يبدو من عيونهم الزائغة المتنقلة من مؤخرة هذه المرأة المحجبة من أعلى ذات الجينز الاسترتش من أسفل، إلى تفاصيل يتخيلونها لقوام هذه الأنثى المنتقبة التى لم تأل جهداً فى تكحيل العينين تعويضاً لما خبأه الرداء الأسود، ثم ما يلبثون أن يصبوا التعليقات الغاضبة المتمعنة فى أوصاف تتعلق بالعهر والفسق لتلك التى تمر أمامهم دون غطاء يحجب شعرها، الجميع بالنسبة لهم «حريم» يبحثن عن «راجل يلمهم» أو «يشكمهم» وبالطبع يؤدبهن جنسياً.
جنس أولئك الرجال ذائع الصيت فى مصر، وهو ليس حكراً على طبقة بعينها، أو فئة دون غيرها، ولكنه موجود ومتغلغل ومتمكن، إن لم يكن جهراً فسراً، إحباطات الكثير من الرجال المادية والمهنية والنفسية والعصبية مضافاً إليها صورة ذهنية وأوهام ثقافية وموروثات شعبية حول معنى «الذكورة» «عملت قفلة» رهيبة، فبين ذكورة مهدورة بفعل واقع حياتى جعل من المرأة المصرية نداً مادياً ومهنياً وتعليمياً وفكرياً للرجل من جهة، وعقيدة ثقافية تجعل من ندية المرأة بالضرورة تهديداً للرجل، أخذ الرجال على مدار العقود الخمسة الماضية يفشون غلهم فى النساء بتأييد مكتوم من الدولة، ومباركة واضحة ودفعات قوية من مؤسسات دينية، وخرس مجتمعى «فيه اللى مكفيه»، وصمت نسائى يميل فى كثير من الأحيان إلى التمسك بتلابيب «ضل راجل ولا ضل حيطة» فى شتى مناحى الحياة.
الحياة التى يفترض أن تكون شراكة بينهم وبينهن ما زالت فى مصر علاقة حاكم بمحكومة، ولأن المحكومة تقف على قدم المساواة مع الحاكم، وكلاهما يعلم ذلك علماً ضمنياً، ولأن بقايا عرف غير منطقى ما زالت تسيطر، ولأن ألغام سلفنة المجتمع آخذة فى الازدهار دون أن ندرى، فإنها تسكت على تحقيرها فى مقابل وجوده إلى جوارها.
وإلى جوار تمثال «نهضة مصر»، حيث مصر ممثلة فى فتاة تقف قوية شامخة بلا ظهر منحنٍ أو تحاول إخفاء تفاصيل أنوثتها التى باتت نقمة فى المحروسة، أو نظرة انكسار لتتماشى وموقف الشارع المخزى من تاء التأنيث، وهى تضع يدها على تمثال أبوالهول، أحد رموز مصر الفرعونية القوية بنسائها ورجالها، باص نقل عام تقوده سيدة منتقبة وركابه نساء وفتيات، أما الإعلام المصرى فيتناقل أخبار أول باص مخصص للنساء وتقوده امرأة باعتباره فتحاً مبيناً، وحلاً للتحرش، ووسيلة «راقية» لانتقال النساء، الباص وما يمثله فضيحة مدوية وكارثة بكل المقاييس.
مقياس احترام المرأة بات فى مصر فصلها، لم يعد أحد يتضرر من تركز كلمات السب والشتم فى الأعضاء التناسلية للأم، ولم يعد أحد يتكدر من تعرض الإناث فى الشوارع لعمليات انتهاك مستمرة اسمها التدقيق فى تفاصيل الأجسام، وكأن الثور يفحص البهائم من حوله، وهى عمليات تدقيق يواجه الاعتراض عليها برد معروف مسبقاً هو: «هو حد كلمك ولا جه جنبك؟»، وعادة ما يأتى هذا الرد البليغ مذيلاً بقائمة من الشتائم الجنسية أو الأوصاف الجنسية، أو ما تيسر من أى تعليق جنسى.
«آخر مرة زرت فيها القاهرة شعرت أن الرجال والشباب عندكم لديهم مشكلة جنسية كبرى، فرغم أن الغالبية المطلقة من النساء والفتيات فى الشارع مختبئات تحت الملابس، إلا أن الطريقة التى ينظر بها كثيرون من الرجال إلى النساء توحى بأن لديهم شرهاً جنسياً أو ربما حرماناً جنسياً، فهم ينظرون إلى كل النساء بغض النظر عن أعمارهن أو قوامهن أو ملابسهن نظرات مدققة، هناك شىء ما غير مريح وبصراحة لا أفكر فى المجىء إلى مصر مجدداً إلا إذا اضطرتنى ظروف عملى»، نزلت كلمات الصديقة البريطانية على مسمعى كالصاعقة، وسبب الصاعقة هو أننى لم أتعجب، بل كنت كمن يخشى مواجهة تعليق كهذا، فواجبى الوطنى يحتم علىّ نفى التهمة، أو تعليل الظاهرة، أو على الأقل تخفيف وطأتها من «ظاهرة» إلى «حالات فردية». ولكن كيف لى أن أفعل ذلك وأنا قد كرهت حياتى وكرهت كونى امرأة فى مصر؟ وكيف لى أن أنفى أن رجال مصر صاروا على رأس المتحرشين فى العالم؟ وكيف لى أن أتجاهل دراسة الأمم المتحدة فى 2013 التى أشارت إلى أن 99 فى المائة من الإناث فى مصر يتعرضن للتحرش؟ وإن وصفت الدراسة بالتآمرية، فكيف لى أن أفسر لنفسى شعورى بأن كل كائن أنثوى يسير على اثنين فى شوارع مصر قابل للتحقير والتسفيه والتحرش لدرجة جعلت الكثيرات يتفنن فى التبرؤ من أنوثتهن وكأنها عار؟
قبل أسابيع، صدرت دراسة عن «مؤسسة تومسون رويترز» أشارت إلى أن ارتفاع معدلات ختان الإناث وزيادة العنف الموجه ضد المرأة وصعود التيار الدينى بعد أحداث يناير 2011 عوامل جعلت من مصر «أسوأ مكان فى العالم العربى» يمكن أن تعيش فيه المرأة، ومع الأسف وكلى ألم، أقول إن الدراسة أزعجتنا وأغضبتنا، لكن ما توصلت إليه لم يكن صادماً، لماذا؟ لأنه كامن فى نفس ملايين النساء المصريات، فهل هذه هى مصر التى نريدها؟ أم سنعمم حل باص النقل العام الذى تقوده منتقبة فى أرجاء البلاد؟!