حيرة كبيرة. هل يخرج المقال تحت عنوان «كل هذا العك!»؟ أم «ومن العك ما قتل»؟ أم «وإيه كمان؟!»؟ لكن وجدت فى «وإيه كمان؟!» قدراً أوفر من المنطق واتجاهاً أصدق، حيث توقعات شبه مؤكدة بأن العك مرشح للزيادة وقابل للتكاثر. ولم يعد العك قاصراً على الشأن الداخلى، كما لم يعد حكراً على أصحاب توجهات دون غيرها، بل ينهمر على مصر من كل حدب وصوب.
وقد صوّبت «بى بى سى» خبرها «الحصرى» الشهير قبل أيام فى توقيت عليه الكثير من علامات الاستفهام. فبينما تفتق ذهن البعض فى ضوء مجزرة مسجد الروضة وبناء على توجهات فكرية وسياسية ما أنزل الله بها من سلطان عن تحليل لوذعى قوامه أن النظام المصرى يخطط لتوطين الفلسطينيين فى سيناء، قررت «بى بى سى» أن تخرج بهذه الوثائق كنوع من السبق أو الكشف الحصرى لها.
ويشار إلى أنه فى نهاية كل عام ميلادى، ترفع الحكومة البريطانية السرية عن نقاشاتها ومحاضر جلساتها ومراسلات سفاراتها فى وزارة الخارجية، ولقاءات الوزراء البريطانيين مع نظرائهم وغيرها، وذلك بحسب قانون حرية المعلومات البريطانى. ومعروف أن الدولة البريطانية تحتفظ بحق الإبقاء على ملفات بعينها قيد السرية لأسباب تعتبرها تتعلق بأمن قومى أو لعدم تعريض أصحابها للحرج أو الأذى، أو فى حال كان فيها ما يلحق الضرر بقضايا تتعلق بالاستخبارات والتجسس. كما تحتفظ الدولة بالحق فى حذف أسماء بعينها من وثائقها للأسباب نفسها. ولدى بريطانيا كذلك ما يعرف بـ«قاعدة الـ30 عاماً» حيث يمكن لأى مواطن الاطلاع على الوثائق الرسمية بعد مرور 30 عاماً عليها، باستثناء تلك التى تعتبرها الدولة خطرة أو أن كشفها ما زال يعرض مصالح الدولة للخطر.
خطورة خبر «بى بى سى» الحصرى لا يتعلق بما ورد فيما نشرته، لا سيما أن العنوان الرنان «مبارك قبل بتوطين فلسطينيين فى مصر قبل أكثر من ثلاثة عقود» لم يعكس ما ورد فى الخبر نفسه تفاصيل عن حديث الرئيس الأسبق عن ضرورة التوصل لاتفاق فى شأن إطار تسوية شاملة للصراع العربى الإسرائيلى، ومحاولات إقناع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بقبول إنشاء كيان فلسطينى تمهيداً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وغيرها.
توقيت الخبر يطرح تساؤلات عدة أجابت عنها صحف قطرية لتؤكد أنه لا شىء يأتى مصادفة وأن أوركسترا الدق على رأس مصر لم يفتر أو يهدأ أو حتى يأخذ فاصلاً قبل أن يواصل. أسئلة على شاكلة «هل تصاعد الحديث عن توطين الفلسطينيين فى سيناء والكشف عن وثائق بريطانية حول موافقة مبارك على توطينهم له علاقة بجهود الرئيس الأمريكى ترامب لتنفيذ الصفقة الكبرى؟»، و«هل توقيت الحديث عن التوطين والوثائق المعلنة على (بى بى سى) مع مجزرة شمال سيناء الأخيرة محض صدفة؟»، و«هل تصريح وزيرة إسرائيلية أيضاً بأن سيناء أنسب مكان لتوطين الفلسطينيين مجرد صدفة؟»، وتنقب صحف قطرية فى حفريات الإنترنت لتستعين بما كُتب من قبل عن مزاعم «توطين الفلسطينيين فى سيناء» من قبل أشخاص وكيانات غير موثوق فيها أو غير ذات صفة تتيح لها اتخاذ قرارات أو حتى تحليل تحليلات تؤخذ مأخذ الجد. فتارة تكتب عن «خطط مؤكدة بالمضى قدماً فى تأسيس وطن موازٍ للفلسطينيين فى سيناء تنفيذاً للإرادة الإسرائيلية والتخطيط الأمريكى وبموافقة النظام المصرى» وغيرها من الترهات والكثير منها منقول من سنوات سابقة من قناة وموقع «الجزيرة».
وعلى شاشة «الجزيرة» يباغتنا فيديو للفريق أحمد شفيق وكأن فى أدمغتنا مساحة إضافية لمزيد من العك. فبعد إعلانه نية الترشح للرئاسة (عبر حديث لوكالة «رويترز» تحديداً) فى 2018 -ولا غضاضة فى ذلك ولا ينبغى أن يمنعه أحد طالما وضعه القانونى يسمح بذلك، يخرج علينا مجدداً بعدها بساعات عبر رسالة مصورة (تلقتها وكالة «فرانس برس» وبثتها الجزيرة) ليعلن أن السلطات فى دولة الإمارات منعته من المغادرة. وقال: «فوجئت بمنعى من مغادرة الدولة الشقيقة الإمارات لأسباب لا أفهمها».
لكن الحقيقة أن النصيب الأكبر من عدم الفهم يبقى حكراً على المواطن العادى. فلا هو فهم استقرار الفريق شفيق فى الإمارات منذ خروجه من مصر «لأداء العمرة» فى عام 2012 عقب الانتخابات الرئاسية، ولا هو فهم طبيعة العلاقة بينه وبين الدولة المصرية حالياً، بل إنه (المواطن) كاد ينسى الفريق شفيق لأن طاقته (المواطن) الاستيعابية لم تعد تحتمل المزيد.
وعلى سبيل المزيد من العك غير المبرر، نطالع أخبار الصباح حيث «مطربة عندى ظروف تحضر جلسة المحاكمة مرتدية النقاب»، وشد وجذب حول قائمة الـ50 المبشرين بالإفتاء من قبل الأزهر ودار الإفتاء، وصور من مدرسة إعدادية فى ميت غمر وأخرى فى دمياط توضح محاكاة مجزرة الروضة عبر مشاهد تمثيلية فجة قام بها التلاميذ بعدما ارتدوا ملابس التصوير وهى جلابيب بيضاء كتلك التى كان يرتديها شهداء الروضة، ولطخ مسئولو الديكور أرض المدرسة بألوان حمراء لتبدو كالدماء، وقام بقية التلاميذ بدور «الإرهابيين»، ثم عذر أقبح من ذنب حيث دفاع مسئولى المدرستين بأن «الهدف غرس حب الوطن»، واحتفاء وفخر بالسيدة المنتقبة قائدة أول باص عام للسيدات فقط، وكأننا وصلنا لحل لمشكلات الروهينجا والصراع العربى الإسرائيلى والإسلاموفوبيا مجتمعة.
اجتماع المصريين الموحد على موقف متطابق ألا وهو أنهم هرموا انتظاراً لغد أفضل، وملّوا انغماساً فى عك لا طائل منه، يعنى أن هناك حاجة ماسة للخروج من المستنقع. وهل هناك ما هو أفضل أو أضمن أو أرقى من أن يكون الخروج بالالتفات إلى المستقبل؟ وهل يختلف اثنان على حقيقة أن المستقبل لا تشيده حروب «فيس بوك» أو تؤسسه تنظيرات «تويتر» أو تلهيه جهود العك الدولية من خروج بوثائق عن توطين هؤلاء هنا أو ترشيح أولئك هناك، أو يعميه نقاب سواء كانت ترتديه مطربة «عندى ظروف» أو قائدة «باص النساء» أو ما يستجد على غرار مقولة «وإيه كمان؟!».