إهانة أحمد عرابى وتزييف التاريخ الوطنى
ولا إثم فى التظنن فى أغراض إهالة التراب على «عرابى»، ونعته فى عبارة جامحة ظالمة بما يزرى به، وتجاهل مقدمات الحركة العرابية وما دار بها بغض النظر عن «عبارة» قيلت أو لم تُقَل فى مشهد ميدان عابدين الذى لم ينازع أحد من المؤرخين وثقات علماء التاريخ فى حصوله فى التاسع من سبتمبر عام 1881، ولا إثم فى التظنن فى دوافع اتهام هذا الزعيم المفترَى عليه بأنه سبب احتلال الإنجليز لمصر، وتجاهُل ما حفلت به سجلات الحوادث وكتب علماء التاريخ الثقات من أفعال الخديو توفيق الذى رمى نفسه فى أحضان الإنجليز، واعتبر احتلالهم للبلاد نصراً، ووصمه والباب العالى بالدولة السنية قائد الثورة فى الوقت الحاسم بأنه وأصحابه عصاة مارقون، وإصدار الخديو منشوراً معمماً إلى جميع السلطات الملكية والعسكرية فى منطقة قناة السويس بأن أميرال الأسطول الإنجليزى وقائد الجيوش البريطانية، بأنهم أتوا إلى مصر لإعادة النظام إليها، وأن فخامته الخديو توفيق قد سمح لهم باحتلال جميع الأمكنة التى يرون فى احتلالها ما يساعد على قمع العصيان، وبأن تقديم العون إليهم واجب وكأنه يقدَّم للخديو شخصياً، وتهديد فخامته كل من يتوانى فى بذل هذا العون إلى القوات الإنجليزية، بينما يرسل السلطان العثمانى ستة آلاف جندى للمشاركة فى القوة الإنجليزية ضد عرابى والمصريين، حتى يعقب شفيق باشا، رئيس الديوان الخديوى، على ذلك فى مذكراته بقوله: «ولما وصلت البرقية فى 15 أغسطس بوصول القوة التركية (المقبلة لمناصرة الإنجليز) فرحنا لهذا الخبر؟!!».
ولا عجب فى ذلك إزاء المنشور المعمم المذكور نصاً بمذكراته، الذى أصدره الخديو توفيق فى 22 أغسطس إلى كل الدوائر الملكية والعسكرية فى القُطر المصرى قائلاً فيه:
«إنه لما كان الغرض الوحيد من الأعمال العسكرية التى يقوم بها السير جارنت ولسلى هو استتباب الأمن فى مصر، فنحن (أى فخامة الخديو) قد صرحنا له باتخاذ التدابير العسكرية التى يرى لزوماً لاتخاذها، فيجب عليكم (أى السلطات المصرية) أن تبذلوا له المساعدات اللازمة (!!) وتطيعوا أوامره (!!) كما لو كانت صادرة منا (!!)، فمن يخضع له كأنه خضع لى شخصياً (!!) ومن خالفه يُعد عاصياً لنا (!!) ويعامل معاملة العاصى (!!)، وقد أصدرنا أمرنا هذا إليكم للعمل بمقتضاه»!
تناولت هذا كله وغيره تفصيلاً فى نحو مائتين وثلاثين صفحة من كتاب «ثوار فرسان»، كتاب الهلال- العدد (771)، يونيو 2015، مستمداً المادة الموثقة من مذكرات «الرافعى» وكتابه عن الثورة العرابية، ومن مجموعة «مصر للمصريين» لسليم النقاش، ومن مذكرات أحمد شفيق باشا، رئيس الديوان الخديوى فى تلك الأيام، فضلاً عما كتبه الأستاذ العقاد بكتابه القيّم «ضرب الإسكندرية» فى يوليو 1882، والمؤلف الضافى «عرابى المفترَى عليه» للأستاذ محمود الخفيف، وكتاب الدكتور حسين فوزى النجار: «أحمد عرابى» مصر للمصريين، وغيرها من المدونات التى سجلت حوادث التاريخ.
كانت الحركة العرابية مقدمة لزعامة مصطفى كامل وما أحيا به البعث الوطنى، وما تابعه من بعده محمد فريد الفارس النبيل شهيد الوطنية المصرية، مما كان تمهيداً لثورة 1919 المراد هدمها مع هدم كل تاريخنا الوطنى بكلمات طائشة لا تنتمى إلى العلم والحقيقة!
فارق بين النقد والتحقير.. ناهيك بالتزييف!
ليست هذه السطور العجلى بكافية لبسط صحيح تاريخنا الوطنى والقومى، أو إنصاف صلاح الدين وأحمد عرابى، ومن المؤكد أننى عائدٌ إلى ذلك، وإنما حسبنا أن نلاحظ أن بعض الكلمات الطائشة، تركت النقد الموضوعى، الذى مكانه قاعات العلم والدرس، إلى تزييف تاريخنا وتحقير وإهانة رموزنا الوطنية والقومية.
وقفة واجبة مع الإعلام
على أن ما يُطرح للناس، لا سيما فى الفترة الأخيرة، شابَهُ الفساد الشديد فى مضمونه، والالتباس المؤذى فى أغراضه، وبات الناس فى حيرة شديدة مما يسمعون ممن يظنون فيهم العلم واستقامة المقاصد، وكلاهما غير متوافر فى هذا أو ذاك، بقدر أو بآخر، فإذا كان العامة معذورون فى عدم معرفتهم بما يُلقى إليهم، فلا عذر للإعلام بأنواعه، لأن قوام القائمين عليه مؤهلون بالعلم والمعارف والثقافة، ومن ثم قادرون على التمييز بين الغث الواجب استبعاده، وبين السمين الذى يجوز إلقاؤه إلى الناس، الأمر الذى يبدو منه وجوب أن يراجع الإعلام نفسه فيما يطرحه فى قنواته وعبر صفحاته وشاشاته.
ولا نقصد بهذا النقد كل الإعلام، وإنما نقصد بعضاً من كل، وإِنْ كان صوته عالياً، وتأثيره الضار شديداً، وقد كان الإعلام فيما سلف يتغيّى استضافة العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء والكتاب، ليعرض على المتلقين ما لدى هؤلاء من فكر راقٍ، وعلم صافٍ، وأدب رفيع، وشعر متميز.. وكان الخروج ولو لمرة عن هذه القاعدة التى رعاها الإعلام وألزم بها نفسه، كفيلاً بمعايرة من عساه يخرج عليها بالعار!
فهل صار العار هو الأصل لدى القلة الشاردة عن مبادئ الإعلام وقيمه ومثله؟!
لقد صار ملحوظاً أن بعض القنوات والفضائية بالذات تخرج قصداً عن هذه المبادئ، وتستضيف شوارد على الفكر والدين والوطنية، يوسعون الناس بلبلة وحيرة، حتى رأينا فى الأسابيع الأخيرة من لا وجود له أصلاً فى المحاماة، ولم يُعْرف عنه سوى شطحات تحت شعار «خالف تُعْرَف» يخرج فى إحدى الفضائيات ومنها ينتشر إلى غيرها، ليحرّض على اغتصاب من ترتدى بنطالاً ممزقاً، ولم يكن حسبه ولا حسب من استضافه هذا الخروج السافر على محارم القانون، وعلى القيم والأخلاق، ومبادئ الأديان، إنما طار نبأ هذا الجموح الضرير إلى العالم ليصور صورة زائفة كاذبة، وبالغة السوء والظلم لمصر والمصريين!! ويعطى للمتربصين الفرصة لتشويه مصر وشجب قيمها وثقافتها، ظلماً وعدواناً، وعلى خلاف الحقيقة!!
واجب المتلقى!
من المؤسف أن الحقيقة باتت محاصرة، وأن النوايا لدى البعض مبيتة، والقصود لديهم مغرضة، ولم يعد أمام المتلقى إلّا أن يفرز بحذر وفطنة ما يُبَث إليه حتى لا تزيف عليه الأمور!
فليس كل من ادعى العلم عالماً!
وليس كل من ادعى التدين متديناً!
وليس كل متعالم عالماً حقيقةً بالدين!
وليس كل من ادعى الإخلاص مخلصاً!
لا خوف على المتلقى من تسريب التضليل إليه ما دام متفطناً، مستخدماً لعقله، فاحصاً مدققاً فيما يقال له.. إن الحقيقة دائماً بنت البحث، وهى ملكنا وملك كل وطنى شريف، وهى ليست قاصرة أو طوع من يتبنون تلبيس وتشويه الدين، وزعزعة الدين والعقيدة، وتشويه تاريخنا، وهدم رموزنا الوطنية، والقضاء على مُثلنا العليا..
من المؤسف تسريب أمثال هذا التزييف إلى الساحة!
ومن المؤسف أكثر أن تفتح لذلك بعض القنوات الإعلامية صفحاتها المرئية والمقروءة، وتهيئ الفرص وتعطى المساحات لبث السموم!!
ولكن المؤكد أنه لا بأس علينا ما دمنا نملك عقولنا ونوقظ كل قرون الاستشعار للفرز والتجنيب ولفظ الأباطيل والأضاليل، وحماية ديننا ومعتقداتنا ومصيرنا وآمالنا الوطنية!