بات لدينا الكثير لنتعلمه من انتخابات النوادى الرياضية التى جرت وقائعها على مدى الأسابيع القليلة الفائتة، وهى انتخابات حفلت بالكثير من الدروس الجديرة بالاعتبار.
نحن نعرف الانتخابات من أكثر من قرن، سواء كانت انتخابات سياسية (برلمانية، محلية، رئاسية، حزبية)، أو انتخابات غير سياسية (أندية، نقابات، اتحادات طلابية)، ورغم هذا التاريخ الممتد، فإن ممارساتنا الانتخابية ما زالت تحفل بالكثير من أوجه النقص والعوار.
فى أبسط معانيها، فإن الانتخابات عملية يجرى بمقتضاها اختيار الأشخاص الذين يتحملون مسئولية قيادة الجهة المعنية وإدارتها، عبر استطلاع رأى أعضاء تلك الجهة، لتسمية ممثليهم فى القيادة، فى عملية يجب أن تعكس أكبر قدر ممكن من النزاهة والأمانة.
تعطينا الانتخابات الجيدة مزايا فريدة بكل تأكيد؛ فهى عملية تضمن الممارسة الديمقراطية، والمشاركة فى تحمل المسئولية، والشفافية، والمساءلة، والمحاسبة؛ وهو الأمر الذى يعمق الشعور بالولاء والانتماء، ويحسن مخرجات الحكم والإدارة، ويضمن جودتهما فى الحد الأعلى، أو يوفر طريقة سلمية متحضرة لتجاوز الأخطاء، وتصحيح المسار فى الحد الأدنى، عبر إحلال أشخاص آخرين محل هؤلاء الذين لم يلبوا التطلعات، أو يخفقوا فى تحقيق الوعود والإنجازات.
يعتقد باحثون متخصصون أن الانتخابات الجيدة تنطوى أيضاً على مشكلات وأوجه نقص عديدة، ويمتد هذا النقد ليطال العملية الديمقراطية ذاتها، لكن الأكيد أن ثمة توافقاً واسعاً على أن الديمقراطية، وما تستلزمه من إجراء الانتخابات الجيدة، تظل أفضل أسلوب لبناء هيئات الحكم والإدارة، وأن الأخطاء التى تنطوى عليها، وتسبب المشكلات أحياناً، تظل أقل بكثير مما ينجم عن الأساليب الأخرى فى تسمية الممثلين فى تلك الهيئات.
بالنسبة إلى انتخابات النوادى الرياضية، التى شغلت المجال العام فى مصر على مدى أسابيع مضت، يمكن القول إنها اتسمت بقدر من الديمقراطية والجودة معتبر، من دون أن يعنى هذا أنها لم تشهد بعض التجاوزات، التى لا تطيح بنزاهتها فى العموم.
ثمة الكثير من الجوانب الإيجابية التى يمكن أن نتحدث عنها فى هذا الصدد؛ وأهم تلك الجوانب يكمن فى الاهتمام الواسع من قبل أعضاء الجمعيات العمومية للنوادى بتلك الانتخابات، وهو الأمر الذى انعكس بوضوح فى حجم المشاركة، الذى كان معقولاً إلى درجة كبيرة.
يخبرنا هذا بأن الطبقة الوسطى فى مصر، وهى الطبقة التى ينتمى إليها أغلب أعضاء هذه النوادى، تريد مناخاً مناسباً لممارسة حقها الديمقراطى الطبيعى فى اختيار ممثليها فى هيئات الإدارة، وأنها تدرك أن هذا الحق يعكس مسئولية فى الوقت ذاته، وأنها قادرة على ممارسة هذا الحق والنهوض بتلك المسئولية فى آن واحد.
عندما تكون الجمعية العمومية لأى هيئة (نادٍ، أو حزب، أو دائرة محلية، أو جامعة، أو دولة) قادرة على فهم أهمية العملية الانتخابية، وراغبة فى المشاركة، ومتفاعلة مع المرشحين وبرامجهم، يكون لدينا أساس موضوعى للممارسة الديمقراطية.
الملمح الإيجابى الثانى فى تلك الانتخابات يخص المرشحين لرئاسة مجالس إدارات النوادى وعضويتها، والذين ينتمى أغلبهم إلى الطبقتين الوسطى والعليا.
فقد ظهر اهتمام واضح من قطاعات بينهم إلى التعبير عن الذات وعرض أنفسهم على الجمعيات العمومية، وبذل الكثير من الجهد، والمال، وأحياناً السمعة، لكى يحظوا بهذه المناصب التطوعية فى الأساس.
يخبرنا هذا بأن هاتين الطبقتين فى مصر تتطلعان إلى لعب أدوار على المستوى العمومى، والانخراط فى الخدمة العامة، وممارسة شئون الإدارة، وهو أمر يعكس وجود طاقة ضخمة للمشاركة، يمكننا البناء عليها واستغلالها.
يعطينا النادى الأهلى بالذات، وعدد من النوادى الأخرى غير الجماهيرية، مثالاً واضحاً على الإدارة الرشيدة للعملية الانتخابية، وهى إدارة حافظت، فى ظل أجواء منافسات شرسة، على قواعد منافسة عادلة، ومسئولة، ورشيدة، لم تجرفها سخونة التنافس بعيداً عن مقاصد العملية الديمقراطية، ولم تنحرف عن أجواء الالتزام والروح الرياضية المفترضة.
لقد مرت العملية الانتخابية فى الأهلى بحد أدنى من التلاسن والتراشق والتجاوز يمكن قبوله، وأفضل ما جرى لاحقاً عقب نهاية الماراثون التنافسى شهدناه جميعاً فى اعتراف المهزوم بالهزيمة، وتهنئة الفائز، وفى قيام هذا الأخير بشكر الخاسر، والاعتراف بما قدمه خلال ولايته من عمل، وما حققه من إنجازات.
كانت هناك فئات ضمن أعضاء الجمعية العمومية حرمتها القواعد المعيارية من الإفصاح عن رأيها فى المرشحين، وأقصد بتلك الفئات بعض اللاعبين فى الفرق الرياضية (مثلما هو الحال فى الانتخابات السياسية التى تحرم القضاة ومنسوبى القوات النظامية من الإدلاء بأصواتهم)، وهو أمر تمت المحافظة عليه، حتى لا يتأثر الكيان المعنى بتأثيرات سلبية.
لكن تلك العملية التى شهدت جوانب إيجابية عديدة انطوت أيضاً على بعض جوانب النقص، التى لم تُطِح تماماً بأهميتها ونزاهتها ونجاعتها كما أسلفنا، ومن تلك الجوانب أن بعض النوادى للأسف شهدت مشاحنات وملاسنات وإجراءات خرجت عن حدود التنافس النزيه، ووقعت بها مخالفات واضحة، وممارسات سلبية.
لا يمكن ازدراء إرادة الجمعية العمومية، والالتفاف عليها، بعدما قالت كلمتها بوضوح حيال اسم الشخص المعنى بشغل أحد المناصب، لأن ذلك يقوض العملية من الأساس، ويزعزع الثقة فيها.
لا يجب أن تتحول المنافسة المسئولة والمطلوبة إلى تجريح وإساءات ورمى اتهامات، كما حدث فى أحد الأندية، ولا يجب أن تكون السلطة التى منحتها الجمعية العمومية لأحد أعضائها مسوغاً للافتئات على إرادة الجمعية ذاتها، أو «شيكاً على بياض»، لممارسة السلطة بطريقة استبدادية، باسم نتائج الصناديق.
الانتخابات ليست نتائج الصناديق وحدها، لكنها قبل ذلك احترام لقواعد المنافسة العادلة، والتزام بالعمل وفق القواعد واللوائح والقوانين، التى تحكم العملية الانتخابية نفسها، والتى اختار أعضاء الجمعية العمومية المسئولين لكى يسهروا عليها ويحترموها ويُفَعِّلوها.
ثمة عنصر سلبى آخر تمثل فى حجم الإنفاق الإعلانى والدعائى، ورغم عدم وجود آليات موثوقة لحساب حجم هذا الإنفاق، فإن بعض التقديرات تشير إلى أنه تخطى 300 مليون جنيه مصرى فى مجمل تلك النوادى، وهو رقم أكبر بكثير من طبيعة الانتخابات وأحجام الجمعيات العمومية التى تشارك فيها، ما يفتح الباب للحديث عن احتمالات التكسب غير المشروع من تلك المناصب، سواء كان هذا التكسب وجاهياً أو مالياً أو سياسياً.
أما العنصر السلبى الأكثر وضوحاً فى هذا الصدد فيتصل بالمواكبة الإعلامية للعملية الانتخابية التى شهدتها تلك النوادى، إذ غابت المعالجة الموضوعية للانتخابات والمرشحين فيها إلا قليلاً، وكان من النادر فعلاً إيجاد تغطية معيارية، تلتزم قواعد الحياد، والموضوعية، والتوازن، والدقة، وهى قواعد لا يمكن إدراك نزاهة العملية برمتها إلا من خلالها.
لقد ظهر أثر المال واضحاً فى تلك الانتخابات، ولولا أن الجمعيات العمومية لتلك النوادى تتشكل من أفراد من الطبقات الغنية أو المستورة، لكان هناك مجال لاستخدامات أكثر ضرراً للمال.
الخلاصة أن تلك الانتخابات انطوت على جوانب سلبية، أقل كثيراً مما شهدته من إيجابيات، ولعل أهم تلك الإيجابيات يكمن فى أن قطاعاً مؤثراً من المصريين جاهز للمشاركة وقادر عليها.