يقول السادة علماء الجغرافيا والتاريخ إن الحضارات النهرية تنجب شعوباً على درجة ملحوظة من السلبية واللكاعة على المستويين الشخصى والجماعى، ويرى بعض هؤلاء العلماء والباحثين أن هذه الظاهرة تبدو واضحة إلى حد كبير فى أحوال الشعب المصرى الذى استسلم فى بداية تاريخه لحكم مركزى صارم طبقى واستاتيكى واستبدادى استمر نحو خمسين قرناً من الزمان وأفضى إلى خمسة وعشرين قرناً أخرى خضعت فيها مصر لحكم الفرس والإسكندر المقدونى والبطالمة والرومان والعرب والمماليك والعثمانيين والإنجليز، ولم تنل البلاد استقلالها إلا مع ثورة يوليو 1952. وطوال هذا العمر لم تشهد مصر أية محاولات شعبية حقيقية للمشاركة فى الحكم أو القضاء على الاستبداد أو المطالبة بالعدالة الاجتماعية أو حتى طرد الغزاة على اختلاف جنسياتهم ومصادرهم، وتصل السلبية إلى أقصى حدودها حين ينال المصريون الاستقلال على يد حركة وطنية قادها نفر من ضباط الجيش اكتفى الشعب -أو بعضه- بتأييدها ومباركتها دون أن يكون له أى فضل فى نشأتها أو نجاحها أو انحياز قادتها لما اعتبروه مصالح الوطن.
كل هذا كلام قديم ونظريات تقليدية، وتحول الآن إلى النقيض بعد انتشار وسائل الإعلام الرسمية والمستقلة والإلكترونية التى منحت المصريين فرصة المشاركة الإيجابية فى كل أحداث البلاد، فضلاً عن أحوال العرب والأجانب فى شتى البلدان. وصار المصريون فى عصر الإنترنت أسرع شعوب العالم فى التعليق الفورى على كل شئون السياسة والاقتصاد والفن والرياضة والتعليم والجرائم والجنس والقانون والكوارث والأمن والسياحة (إلخ.. إلخ).
يوم الجمعة الماضى -على سبيل المثال- خرج الناس من الصلاة ليجدوا أنفسهم أمام كارثة لم يسبق لها مثيل فى التاريخ المصرى الحديث والمعاصر، وربما فى كل مراحل التاريخ الأخرى. وعلى الفور انهالت التعليقات والتفسيرات والتحليلات من عموم الشعب المصرى بكل طوائفه. فريق عاقل يستنكر الحادث ويعبر عن حزنه العميق ويحاول تقديم العزاء لمن أضيروا بصورة مباشرة أو ضمنية. وفريق استراتيجى يقدم تحليلات فورية لأسباب ودوافع وملابسات هذه الكارثة. وفريق راديكالى يطالب بحرق سيناء على رؤوس ساكنيها لأنهم خونة وعملاء يسمحون بإيواء عصابات الإرهاب فى قراهم ومدنهم. وفريق حكيم يطالب بضرورة الإعدام الفورى لكل المنتمين للإخوان أو الإسلام السياسى سواء كانوا فى السجون أو خارجها. وفريق أكثر حكمة يؤكد حتمية الصلح الفورى مع قيادات وأعضاء وجماهير الإخوان حتى يتوقف نزيف الدم والاحتراب الشعبى. وفريق يملك الحكمة والرؤية والحيثية والوجاهة والمعلومات الاستخباراتية العليا يقول إن كل دول العالم تتآمر ضد مصر، وإن قادة هذه الدول لا تفعل أى شىء سوى تدبير وتمويل المؤمرات ضدنا، وإن أجهزة المخابرات فى الدول الكبرى والصغرى والمتوسطة لديها تكليف واحد هو إسقاط النظام المصرى وقتل الشعب المصرى!!
الأجمل من كل هذا أن الكارثة أضافت معلومات استراتيجية غير مسبوقة لقطاع من السادة صانعى الحياة فى هذا البلد. السيد رئيس لجنة الإعلام فى البرلمان المصرى قال إن الحادث الجلل أكد أن الإرهاب يتخذ من الدين ستاراً لجرائمه، وإن هذا الستار كاذب لأن الإرهاب «لا بيدافع عن الدين ولا حاجة»!! السيد رئيس لجنة الإعلام فى البرلمان المصرى لم يقتنع أن الإرهاب عديم الدين والعقل والقلب والآدمية والأخلاق إلا بعد حادث مسجد شمال سيناء، أما قبل ذلك فكان سيادته يرى أن الإرهاب يدافع عن الدين الإسلامى الحنيف!! صحفى وكاتب كبير جداً قال بعد ساعات قليلة من الحادث إن هؤلاء الجناة تركوا أصحاب الأحد وأصحاب السبت وقتلوا أهل الجمعة! أى إن هذه الجريمة لو تمت ضد المسيحيين أو اليهود لسجلها التاريخ فى ميزان حسنات القتلة على أساس أنهم يدافعون عن دين الله -الذى هو الإسلام- ضد الأديان التايوانى الزائفة التى هى اليهودية والمسيحية فضلاً عن الإلحاد! خبير فى تحليل الخطاب السياسى قدم فى إحدى قنوات التليفزيون تحليلاً لخطاب الرئيس الذى أذيع عقب الحادث، وطفق يمعن فى التفسير «العلمى» لكل كلمة فى الخطاب، وخاصة مسألة «القوة الغاشمة»، إلى جانب شرح وافٍ لطبقات الصوت وملامح الوجه أثناء إلقاء الخطاب، وخرج عدد كبير من السادة الذين شهدوا هذه التحليلات بانطباع جماعى يؤكد أن مصر تستعد حالياً لخوض الحرب العالمية الثالثة ضد الدول التى ترعى الإرهاب، والدول التى تتآمر علينا، والدول التى تتركنا وحدنا فى ساحة قتال المتطرفين والإرهابيين! هذا الخبير ومن استعانوا به امتداد لإعلام الستينات الذى ورط عبدالناصر فى حرب 67، فنحن للأسف شعب لا يتعلم من تاريخه أو تاريخ الآخرين.
لست من مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى الإلكترونى، ولكن ما شاهدته فى التليفزيون وقرأته فى الصحف من تعليقات وتحليلات لحادث شمال سيناء لم يخرج فيه من المعجنة الإعلامية المعتادة سوى مقال لكاتبة حول مسئولية الدولة والمجتمع عن زرع التطرف والإرهاب من خلال التوسع فى التعليم الدينى دون أدنى عائد إيجابى، والإصرار على أن مصر دولة إسلامية رغم أن الدول لا دين لها وإنما الأديان مسألة شخصية، والإصرار على خلط الدين بالسياسة رغم أن كل العالم المتقدم لم يصل إلى هذا التقدم إلا بعد فصل الدين عن السياسة.
حتى تخرج مصر من معجنة الإرهاب ومعجنة الإعلام لا تحتاج فقط إلى جيش قوى وشرطة تحرس كل شبر فى البلاد، ولكنها تحتاج إلى ثورة حقيقية فى التعليم قبل كل شىء، ثم ثورة أخرى فى موقف الدولة من الدين، ثم ثورة ثالثة فى العدل الاجتماعى، ثم ثورة رابعة فى التطبيق الصارم للقانون على كل البشر دون استثناء أو مجاملة، ثم ثورة خامسة ضد النفخ الإعلامى الأحمق فى أى شىء سلباً أو إيجاباً. نحتاج للموضوعية والتوقف عن سلوك الهتّيفة والمنافقين فى كل وسائل الإعلام.
نحتاج لتنقية أنفسنا وبلدنا من السلبيات القاتلة التى تمد الإرهاب بوقوده من الانتحاريين والكارهين والحاقدين واليائسين والعدميين الذين استبعدهم المجتمع الظالم من حساباته، فارتمى بعضهم فى أحضان عصابات «الإفطار مع الرسول»!!