كان الوقت عصيباً يمر كما تسعفنا ذاكرة الطفل الصغير وقتها صيف عام 1978، كأن أحداً يلاحقه ويطارده لا يتقاطع معه إلا تداخل أصوات الجماهير وهتافاتهم التى لا نفهم منها شيئاً مع صوت الكابتن محمد لطيف، أشهر معلقى كرة القدم فى تاريخ التعليق الرياضى.. كانت دقائق قليلة تتبقى ليتم تتويج الزمالك بطلاً للكأس.. الغضب يهيمن على الجميع ودخان سجائر الكبار يتزاحم فى المكان ويشكل سحباً بكثافات مختلفة ولم يتبق إلا ربع الساعة الأخير من المباراة ولم يزل الزمالك متفوقاً بهدفين مقابل هدف والهزيمة من نصيب الفريق الذهبى للأهلى أو فريق «التلامذة» كما سموه، وكل ثانية تمر ترفع درجة انفلات الأعصاب الحادث فى المكان، وفجأة يأتى صوت الكابتن محمد لطيف، وكان زملكاوياً أصيلاً يغالب انتماءه فى مباراة الفريقين ليبدو محايداً.. جاء صوته يقول حرفياً: «الخطيب هينزل»! ربما كانت العبارة تقال بهذه الطريقة لأول ولآخر مرة.. إذ إن الطبيعى القول إن «الخطيب بيسخن»، إلا أن لحظات دارت فى ذهن الكابتن لطيف وعاد سريعاً إلى التعليق ليكمل للمشاهدين ويذكرهم بأنه قال لهم «إن الخطيب فى الاحتياطى»، ثم تتكفل كاميرا التليفزيون بنقل مشاهد الإحماء وكيف استقبلت جماهير الأهلى مشهد الاستعانة بـ«الخطيب» الموجود فى الاحتياطى أصلاً خلافاً للمنطق نظراً لإصابته إصابة تتطلب الابتعاد عن الملاعب.. إلا أن ظن الكابتن هيديكوتى، المدرب المجرى صانع هذا الجيل، قد تحقق، وأن وقت الضرورة قد حل، وأن الاستعانة بنجم النجوم قد وجبت!
تتوقف الأنفاس بعد أن تم نزول الكابتن الخطيب إلى أرض الملعب ومن أول لمسة له للكرة يتجدد الأمل وتشرئب الأعناق فى الملعب وخارجه.. من بين ثقة جمهور الزمالك فى الحفاظ على النتيجة وبين أكف مرفوعة إلى السماء من جمهور الأهلى بألا يشمت بهم أحد ولا يفسد عليهم أسبوعهم المقبل أو لحتى لقاء جديد يثأر فيه الأحمر من الأبيض.. إلا أن اللمسة الثانية للكابتن الخطيب كانت فى الشبكة الزملكاوية مباشرة!! إنه «الخطيب» ينتظر محبوبته حيث ستذهب ولم نعرف إلى اليوم سر الجاذبية التى تربط بين المكان الذى يختاره وبين المكان الذى تختاره.. إلا أنه ينتظرها كل مرة بترحاب شديد وغرام لا مثيل له لترضى أن تتركه ويضعها فى شباك الآخرين راضية مرضية فتتبدل النتائج ويتغير ترتيب البطولات ليتغير تاريخ الكرة كله!
وذات يوم قال زميلنا الناقد الرياضى نبيل سالم، أعاده الله إلى وطنه بالسلامة، للكابتن محمود الخطيب مازحاً: «أحمد رفعت ده يا كابتن الخطيب بتاع الصعيد.. وهناك بيسموه بيبو برضو»! رد الكابتن الخطيب على الفور وبشياكة لا مثيل لها وبتواضع لا مثيل له: «وأنا بالجمال ده برضه»!
كان نبيل سالم يشرف على صفحة أسبوعية بعنوان «نجم على التليفون» قبل ظهور الفضائيات والمحمول وضمن خطة النهوض بـ«الأحرار اليومية» التى بدأت بها العمل الصحفى عام ٩٤، وحل «الخطيب» ضيفاً كريماً علينا ولا نبالغ إن قلنا إن وجوده تسبب فى أزمة اتصالات فى شارع الجمهورية وحى عابدين كله الذى كان به مقر الجريدة من كثافة الاتصالات ونشر اللقاء على صفحتين وليس صفحة واحدة!
لكن وقبل عدة أسابيع سألنا الصديق العزيز الأستاذ محمود مسلم، رئيس تحرير «الوطن» المحترم، عن إمكانية الكتابة عن الكابتن محمود الخطيب، نجم مصر والأهلى السابق، فرد بالإيجاب بلا تردد.. ولأن الحرية هنا بهذه الجريدة متاحة وإلى أقصى سقف ممكن ولأننا لا نسأل كل مرة لكن كان السؤال ضرورياً لأن الانتخابات بدأت بالفعل ولا نريد أن نتسبب فى حرج لـ«الوطن» ولمسئوليها.. إلا أن التناول الإعلامى للانتخابات لم يعجبنا فى بعض جوانبه فقررنا أن نكتب عن الكابتن محمود الخطيب بعد الانتخابات أياً كانت النتيجة فالكتابة عنه مؤجلة أصلاً منذ سنوات ولا علاقة لها بأى منافسات رئاسية!
لذا.. فهذا الرجل الذى شهد له الناس بالخلق الكريم وليس رضا الناس إلا شهادة برضا رب الناس.. تربطنا به علاقة ولا تربطنا به أى علاقة.. هذه المفارقة سببها أننا حملنا بالفعل لقب «الخطيب» عندما لعبنا الكرة فى أبوتيج، كبرى مدن محافظة أسيوط، حتى إن اسم الشهرة وحتى اللحظة هو «أحمد الخطيب» أو «بيبو».. وهناك انتقلت لنادى بلدية أسيوط، وكان يضم نجوم كرة موهوبين جداً لعل أشهرهم هو الكابتن هادى خشبة، نجم الأهلى ومنتخب مصر، بينما انتقل نجوم آخرون من الفريق لأندية أخرى، ومنهم من لعب لمنتخب مصر مثل حارس مرمى الفريق.
المهم.. كانت قد انتهت المباراة السابقة التى أشرنا إليها وهى محفوظة فى أرشيف الفيديوهات البيضاء السوداء التاريخية لتصبح أربعة للأهلى مقابل اثنين للزمالك وتذهب الكأس للأهلى.. بعدها بسنوات يعتزل «الخطيب».. لكنه صنع فى كل مباراة بسمة وابتسامة وفرحة وسعادة وبهجة للجميع.. للأهلى ولغيره.. لا نقصد منتخب مصر.. لا.. إنما لكل الأندية.. فهو البلسم المداوى لأى توترات فى العلاقة بين اللاعبين ببعضهم أو بينهم وبين الجماهير فتجده يتدخل هنا مرة ويذهب للجمهور مهدئاً أو معتذراً نيابة عن الجمهور الآخر أو يمسك بيد الكابتن حسن شحاتة، الذى هاجمه بعض الخارجين عن القيم فى إحدى المباريات وبطريقة بذيئة، إلا أن «الخطيب» يجوب الملعب مع «شحاتة» يداً بيد حتى يهدأ الجميع بل وتتحول هتافات الجماهير لنجمى الفريقين!
قليلة هى الإنذارات التى حصل عليها، ربما إلى حد العدم، فقد كان هو هدفاً مباشراً لعنف الجميع.. لكن ورغم أى عنف ومع أى درجة منه كان «بيبو» رجل اللحظات الحاسمة وأحلام اليقظة لجمهور فريقه إلى حدود الخيال مثل هدفه فى فريق «كوتوكو» الرهيب وعلى أرضه ووسط مظاهر العنف والسحر والتعصب إلى حواف الانتحار!
لن تضبطه بما يسىء.. ولن تجده فيما هو مسىء.. وعفا نفسه عما لا يطيقه ولم يكلف نفسه فوق وسعها فلم يندفع بقوة الدفع الذاتى للشهرة ليدرب فريقه أو غيره لذلك لم يتورط فى وضع نفسه تحت مقاصل الاختبار والتقييم واعتذر عن الظهور فى فيلم سينمائى أو حتى ببطولته فلم ينخرط فيما لا يفهم به وحتى ظهوره التليفزيونى ضيفاً ثم مذيعاً كان بموازين الذهب بل تجده فى واحد من البرامج فخوراً بأهله ووالده وشقيقاته ولهم نصيب من الظهور بجانبه.. بينما تظهر السيدة زوجته فى الفيلم التسجيلى الذى أنتج يوم اعتزاله، دون تجاهل لا لعزبة النخل التى نشأ بها ولا لنادى النصر الذى بدأ فيه ولا للجذور الدقهلاوية، ولم يسلم أمره لله فى ذلك إلا بتجارب إدارية ناجحة ارتضى أن يتدرج فيها فصعد السلم داخل ناديه بثبات القوة فمنحه الله من قوة التثبيت وفى أعلى مقاعد النادى الأعرق والأكبر والأشهر!