منذ ميلاد مأساة فلسطين وقيام دولة إسرائيل عام 1948، وهى تشكل المحرك الأول للصراع داخل العالم العربى. وأى حدث جلل تشهده فلسطين لا بد أن تعقبه تحولات جذرية فى معادلات السياسة داخل الدول العربية. من المعلوم على سبيل المثال أن فكرة إنشاء تنظيم الضباط الأحرار اختمرت لدى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، خلال معارك 1948 التى خاضتها الجيوش العربية ضد الصهاينة وانتهت بقيام دولة الكيان الإسرائيلى. وبعد العودة من فلسطين بدأ الضباط الأحرار فى التخطيط والترتيب للتخلص من النظام الملكى. وقد ظهر صدى التحول السياسى الذى شهدته مصر عام 1952 داخل العديد من الدول العربية، فتغيرت أنظمة الحكم فيها.
عقب هزيمة 1967 التى نتج عنها احتلال سيناء والجولان وأراضٍ فلسطينية جديدة، من ضمنها القدس الشرقية، حدثت تحولات موازية أيضاً فى معادلات السياسة داخل العالم العربى، كان أبرزها انكسار تجربة جمال عبدالناصر فى مصر، وصعود الدور السعودى داخل المنطقة، وسطوع نجم الأمريكان كراعٍ لعملية السلام بعد نصر أكتوبر 1973. قبل مقتله بساعات نشر على عبدالله صالح ما زعم أنه وثيقة سعودية تقول إن الملك فيصل طلب من الرئيس الأمريكى «جونسون» أن يوجه إسرائيل إلى احتلال غزة وسيناء حتى يجبر الجيش المصرى على الانسحاب من حرب اليمن التى اندلعت عام 1962. ولو صحت هذه الوثيقة فإن ذلك يعنى أن «فيصل» كان يستوعب حقيقة الدور الذى أصبح الصهاينة يلعبونه لحساب تعديل المعادلات السياسية داخل العالم العربى. ومن المعلوم أن الملك فيصل كان الناصح الأول للرئيس السادات بضرورة الاعتماد على الأمريكان كطرف أكثر فاعلية فى الوساطة بين العرب وإسرائيل.
تواصل الدور الذى لعبته مأساة فلسطين فى تسيير معادلات السياسة داخل العالم العربى بعد زيارة الرئيس السادات لإسرائيل عام 1977. تشهد على ذلك تحقيقات النيابة مع خالد الإسلامبولى ومجموعته التى اغتالت الرئيس السادات عام 1981، حين ذكروا أن سبب إقدامهم على قتل السادات زيارته لإسرائيل وعقد معاهدة سلام مع اليهود. قِس على ذلك التحولات التى شهدها لبنان بعد حرب 1982، ثم الحروب المتتالية على غزة، وكان آخرها عام 2008، بما كان لها من تأثيرات على الواقع السياسى العربى. منذ زرع الكيان الإسرائيلى فى الجسد العربى عام 1948، ونحن بصدد مشهد يستفيد فيه اللاعبون الكبار المتصارعون على الحكم من وجود إسرائيل فى المنطقة، وتدفع فيه الشعوب الثمن. الشعوب وحدها هى التى تدفع الثمن بالدم الذى قدمته فى الحروب والمواجهات التى خاضها العرب ضد إسرائيل على مدار العقود السابقة.
فى ظنى أن القرار الأمريكى بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يبشر بصعود دور الشعوب فى معادلات السياسة داخل العالم العربى، ولو أنك تأملت المشاهد التى نقلت مظاهرات ومواجهات الجمعة الماضى التى عبرت فيها العديد من الشعوب العربية والإسلامية، وعلى رأسها الشعب الفلسطينى، عن رفضها الرضوخ للقرار الأمريكى بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فسوف تجد مؤشرات عديدة على هذا التحول. الشعوب وحدها كانت فى الشوارع فى حين اختفى الحكام بعد أن قاموا بواجبهم فى الإعراب عن «زعلهم» من القرار «الترامبى». الانتفاضة العربية التى نشهدها حالياً سوف تستمر، لأن السنوات الماضية أنضجت الشعوب بما فيه الكفاية لتعلم أن سياسة «النفس الطويل» هى التى ستؤدى إلى تحولات حقيقية على الأرض.