دأب الصحفى عماد جاد، على تبنّى خطابٍ طائفىٍّ شديد التعصب، لا يكاد يبتعد عنه قليلاً لحدث طارئ، حتى يعود إليه، وآخرها هذا الأسبوع بالمناداة بأكاديمية رياضية للأقباط، واتهام الأندية المصرية بأنها تلفظ الأقباط ولا تقبلهم، وأن مؤسسات الدولة وأجهزتها تتعامل مع الأقباط بشك وريبة وتراهم ملفاً أمنياً، وَوَضْع سقف هكذا يزعم لما يمكن أن يصل إليه المصرى القبطى فى تدرجه الوظيفى! أراقب هذا وغيره من زمن، وأمنع نفسى من الرد عليه، لعدة أسباب لا لسبب واحد؛ أولها أنَّ التقارعَ الطائفى يودى بالوطن إلى التهلكة، بإشعال حرب طائفية تقوض كل شىء، وثانيها إدراكى أن التطرف والمغالاة قاسم مشترك، وأن هؤلاء الغلاة موجودون بين المسلمين وبين المسيحيين، فإذا كان كل العقلاء الأسوياء يهاجمون التطرف المحسوب على الإسلام، ويشنّون عليه نقداً بصيراً لاذعاً، إلاَّ أنهم فى المقابل يكفون أنفسهم عن التعرض للمتطرفين المسيحيين، مع أن هناك قنوات مسيحية معروفة تشن هجوماً مغلوطاً وظالماً على القرآن ورسوله، ومن هؤلاء المتطرفين من يهاجمون بخارج البلاد مصر وسياستها هجوماً ضاراً وغير منصف، ومنهم من يغمزون من آن لآخر بالداخل، ويعلم العارفون ببواطن الأمور أن بداية الاحتقان الشديد كانت منذ سبعينات القرن الماضى، إثر خطاب كنسى لشخصية كبيرة جداً شَبَّهَت الأقباط بأهل إسبانيا الأصليين، واعتبرت المصريين المسلمين غزاة، شأنهم شأن الغزو الإسلامى للأندلس. كل ذلك وغيره يراه العقلاء من المسلمين ويصبرون عليه، حفاظاً لنسيجنا الوطنى، ولأمن ومصير مصر، حاضرها ومستقبلها، ويدخلون الرد الواجب فى عداد «المسكوت عنه»، وهذا المسكوت عنه قاسم مشترك بين العقلاء من المسيحيين والعقلاء من المسلمين، وهؤلاء وأولاء كُثْرٌ، فليس فى وسع أحد أن يدعى «التطابق» بين الإسلام والمسيحية، وهناك دوائر يشتد فيها الاختلاف فيما يتصل بالعقيدة الإلهية وعقيدة النبوة، وكان عجيباً أن تبتدع كاتبة مسلمة، إثر نجاتها بوقف تنفيذ عقوبة الحبس المقضى بها عليها لازدرائها الإسلام بوصف «رؤيا» إبراهيم الخليل، عليه السلام، المذكورة بالقرآن بأنها «كابوس»، وبأن المسلمين هواة ذبح، ملتفتةً عن التوراة التى أوردت ذات قصة الفداء فيما عدا أنها وضعت «إسحق» بدل «إسماعيل»، عليهما السلام، وملتفتةً أيضاً عن آلاف الملايين التى يجرى ذبحها فى أمريكا فى عيد الشكر الذى يحل بالخميس الأخير من نوفمبر من كل عام، ولم يكفها هذا الجنوح ولا الحكم القضائى الصادر ضدها، فنشرت بإحدى الصحف الخاصة سلسلة مقالات عَنْوَنتها بأنها «خطاب من دكتور مسيحى يقيم فى كندا إلى شيخ الأزهر»، هكذا خبط لزق، وأن هذا الخطاب، فيما أوردت!!! يذكر آيات بعينها بسورة المائدة عن «عقيدة التوحيد»، وتعتبر ذلك تعدياً على المسيحية، وتطلب إدراج هذه المسألة فى «تجديد الخطاب الدينى»، وكأن القرآن «رُقْعة» خاضعة لهوى هذا وذاك، أو هذه وتلك، متجاهلةً وغيرُها ممن يجرى مجراها أن المجادلة فى النص القرآنى القاطع الورود والدلالة، لا تعنى إلاَّ أن المُجَادِل يُنْكر أن القرآن وحىٌّ إلهى وكلمةُ الله، وأنه من اختراع محمد، عليه الصلاة والسلام!!!
والواقع أنه قد طفح الكيل، والسكوت على هذه الممارسات الضريرة خطرٌ بالغ على الوطن وبنيه، وخطر بالغ على السلام الاجتماعى، وعلى كلًّ من الإسلام والمسيحية.
هذا ولست أتجبَّى بأننى من محبى السيد المسيح، عليه السلام، وأننى كتبت فى محبته مراراً، سواء ما ورد عنه بالقرآن الكريم أم بمشاعرى الشخصية، ومن ذلك مقال بـ«الأهرام» فى 5/4/2010 «فى محبة المسيح»، أعدت نشره فى أكثر من كتاب، وكتبت مقالاً شاملاً عن الإسلام والأغيار، نُشر الشهر الماضى بـ«صوت الأزهر»، وظلت مشاعرى على محبة ووداد كافة المسيحيين، وحياتى عامرةٌ بأصدقاء أعزاء منهم، ولم يخلُ مكتبى فى أى يوم من الأيام -وللآن- من زملاء مسيحيين رجالاً ونساءً، نتآخى معاً ونتعاون فى سفينةٍ واحدةٍ تجرى بنا فى نهر المحاماة ورسالتها ومبادئها الأصيلة العظيمة.
ولم يكن موقفى مجرد مشاعر فقط، بل صَنَّفْتُ كتاباً بعنوان «فى الوحدة والجماعة الوطنية»، أهديت خمسة آلاف نسخة منه إلى قداسة البابا شنودة لتكون تحت نظر الإخوة الأقباط، بالإضافة إلى ما اضطلعت والناشر به لتيسير الكتاب للمسلمين والأقباط جميعاً.
وظنى أن أحداً لا يستطيع أن يزايد على احترامى للديانة المسيحية برغم نقاط الاختلاف فى بعض العقائد بينها وبين الإسلام، ولا على محبتى للسيد المسيح، عليه السلام، وللأخوة والأخوات الأقباط.
تربيت على ذلك منذ الطفولة؛ فقد كانت مدرسة الراهبات أول ما التحقت بها فى مدارج التربية والتعليم، وحملت وما زلت أحمل وداً ومحبة للمير (الأم)، وللراهبات اللاتى لم يفرقن بين مسيحى ومسلم، وكان من أطباء الأسرة؛ الدكتور جورجى ياتريدس، اليونانى الأصل، والدكتور ناشد عبدالمسيح، الذى كان وأسرته «أسعد وكاميليا وماجى» أعز الأحبة، والدكتور رياض سركيس، ودكتور الأسنان نيقولا سعد، إلى غيرهم من الأطباء والمهنيين ومنهم أعلام المحاماة زملاء وأصدقاء أبى: الأستاذ جورجى وابنه الأستاذ ميشيل جورجى، والأستاذ وهبة سليمان وابنه الأستاذ وديع سليمان، والأستاذ رياض السنباطى وأسرته برمتها، والأستاذ إسحق، عملاق القانون المدنى، وغيرهم.
ذكرت هؤلاء وغيرهم فى كتابى «فى الوحدة والجماعة الوطنية»، وتحدثت فيه عن أن القرآن الكريم قد تضمن سوراً مسماة بأنبياء آل عمران وبيت إسرائيل؛ سور: آل عمران، ويونس، وهود، ويوسف، ومريم، ونوح، والأنبياء، وأن المسلمين يتسمون بأسماء نوح وموسى ويعقوب وعيسى وداود وسليمان ويوسف وإسحق وهود ويونس وهارون ومريم وشعيب وزكريا ويحيى وغيرها من الأسماء المنتمية أصلاً إلى الديانتين المسيحية واليهودية، ولا يجدون فى ذلك أى حرج، وأن المزارات المسيحية فى مصر مزارات للمسلمين أيضاً، يترددون عليها ويتبركون بها كما يتبرك المسيحيون.
ولا يتسع المجال لذكر ما أوردته فى هذا الكتاب احتراماً وتحيةً لاختلاف الأديان والتدين، وتكريساً لمنابع الالتقاء، ووجوب الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى والإخاء الإنسانى.
ومن الواجب أيضاً أن أسجل أن ما أشرت إليه الآن هو بعضٌ من كل من ممارسات تسىء للإسلام والمسلمين، بل وللقرآن الكريم.. لم ينل رفضى لها مما فى نفسى من احترامٍ للمسيحية ومحبةٍ للسيد المسيح، عليه السلام، وللأخوة المسيحيين.
ولكن ليس كلُّ المسلمين على هذا الوعى، فمنهم غلاة ومتطرفون سرعان
ما يحتقنون!
كما أن ذلك شأن المسيحيين أيضاً، فليسوا جميعاً على هذا الوعى، ومنهم غلاة ومتطرفون سرعان ما يحتقنون.
لذلك كان خطيراً أن يتبنى صحفى مسيحى، فى عموده اليومى، خطاباً طائفياً شديد التعصب، فإنه يثير فى كوامن القلوب أكثر مما قد يبدو بظاهر الوجوه، ويعرّض مصر لخطر داهم، أما القشة التى قصمت ظهر البعير، ولا هى قشة ولا الظهر ظهر بعير، وقد طفح الكيل بها عن العمود المنشور بجريدة «الوطن» يوم 26 نوفمبر وملحقه المنشور 5 ديسمبر الحالى، والذى طاح فى اتهام الجميع، بمن فيهم الدولة ومؤسساتها العامة والأمنية، بالتعصب ضد المسيحية والمسيحيين، وهو اتهام جائر ومغلوط وبالغ الخطر، لا يمكن أن أدعه دون التعقيب عليه، وسأفعل إن شاء الله.