يوم الأربعاء الماضى، وقّع الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» مرسوماً بنقل سفارة بلاده لدى إسرائيل إلى مدينة القدس المحتلة، ورغم أن القرار يؤكد من جديد أن الولايات المتحدة الأمريكية «دولة مارقة» على القانون الدولى، وتضرب عرض الحائط بكل المواثيق والقرارات الدولية، فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تستمر فى خداع الشعوب العربية من خلال بعض العبارات المجردة من المضمون، كما هو الشأن فى القول بالتزام واشنطن بتسهيل التوصل إلى اتفاق سلام مقبول من الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث تكرر هذا القول على لسان العديد من المسئولين الأمريكيين السابقين والحاليين، وكرره أخيراً دونالد ترامب فى خطابه بمناسبة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
والواقع أن هذا القرار ليس سوى تطبيق لقانون صادر فى الثامن من نوفمبر سنة ١٩٩٥، تحت مسمى «قانون سفارة القدس لعام 1995» (JERUSALEM EMBASSY ACT OF 1995). ولعل ما يبعث على الدهشة أن هذا القانون لم يجد حظه من الاهتمام الإعلامى والأكاديمى العربى، على الرغم من خطورته البالغة، وتعلقه بقضية محورية للعالمين العربى والإسلامى، ورغم مرور أكثر من 22 عاماً على صدوره، لم تفكر أى مؤسسة عربية فى ترجمة القانون ومناقشة نصوصه والبحث فى آليات مواجهة الآثار الناجمة عنه. وفى هذا الصدد، أود التعبير عن إيمانى العميق وقناعتى الشديدة بأن القوانين تشكل مرآة صادقة لسياسات الحكومات، يمكن الاعتماد عليها فى رسم صورة واضحة عن سياسات الدول وسبر أغوار عالم السياسة وتشابكاتها وألاعيبها. ولذلك، نعتقد من الملائم اعتماد القوانين كمرصد لسياسات الدول وآلية لتوثيق الأحداث السياسية.
وانطلاقاً مما سبق، نرى من الملائم إلقاء الضوء على بعض نصوص «قانون سفارة القدس لعام 1995م»، حيث تحدد المادة الثالثة منه سياسة الولايات المتحدة الأمريكية فى هذا الشأن، بنصها على أن «(1) ينبغى أن تبقى القدس مدينة موحدة تضمن حماية حقوق المجموعات الاثنية والدينية، أياً كانت، (2) ينبغى الاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة إسرائيل، (3) يجب إنشاء سفارة الولايات المتحدة لدى إسرائيل فى مدينة القدس فى موعد أقصاه 31 مايو 1999». وبالاطلاع على المادة الثانية من القانون، يمكن أن نستشف منها بوضوح سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ورؤيتها الحقيقية تجاه الصراع العربى الإسرائيلى بوجه عام ومدينة القدس على وجه الخصوص، وينبغى بالتالى ألا نعول على ما سمعناه كثيراً من الإدارات الأمريكية المتعاقبة وتأكيدهم أن وضع مدينة القدس متروك لمفاوضات الحل النهائى بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إذ تنص المادة الثانية من قانون سفارة القدس على أن: «خلص الكونجرس إلى النتائج التالية: (1) يجوز لكل دولة ذات سيادة، بموجب القانون الدولى والعرف، أن تحدد عاصمتها. (2) كانت القدس عاصمة دولة إسرائيل منذ العام 1950. (3) إن مدينة القدس هى مقر الرئيس الإسرائيلى والبرلمان والمحكمة العليا ومقر العديد من الوزارات الحكومية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية. (4) تعد مدينة القدس المركز الروحى لليهودية، وتعتبر أيضاً مدينة مقدسة بالنسبة لمتبعى عقائد دينية أخرى. (5) كانت القدس خلال الفترة 1948- 1967 مدينة منقسمة، حيث مُنع المواطنون الإسرائيليون من كافة الأديان، وكذلك المواطنون اليهود من مختلف الدول من الوصول إلى الأماكن المقدسة فى المنطقة الواقعة تحت سيطرة الأردن. (6) فى العام 1967، تم توحيد مدينة القدس بعد الصراع المعروف باسم حرب الأيام الستة. (7) أصبحت القدس منذ عام 1967 مدينة موحدة تابعة لإسرائيل، مع ضمان الوصول الكامل إلى الأماكن المقدسة داخل المدينة لكافة الأشخاص، أياً كانت عقيدتهم الدينية. (8) يصادف هذا العام الذكرى الثامنة والعشرين على التوالى لإدارة القدس كمدينة موحدة تضمن احترام وصون حقوق كل الأديان. (9) وفى العام 1990، أقر الكونجرس بالإجماع قرار مجلس الشيوخ المتزامن رقم 106، والذى يقر بأن الكونجرس يعتقد بقوة أن القدس يجب أن تبقى مدينة موحدة حيث يتم صون وحماية حقوق أى مجموعة عرقية ودينية. (10) وفى العام 1992، أقر مجلس الشيوخ ومجلس النواب فى الولايات المتحدة بالإجماع قرار مجلس الشيوخ المتزامن رقم 113 الصادر فى اجتماع الكونجرس 102 بشأن الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لإعادة توحيد القدس، والتأكيد من جديد على مشاعر الكونجرس بأن القدس يجب أن تبقى مدينة غير منقسمة»، وهكذا، يدل القانون بجلاء على أن الحكومة الأمريكية ترى أن القدس يجب أن تبقى مدينة غير منقسمة، وأن هذه المدينة الموحدة ينبغى من وجهة النظر الأمريكية أن تكون عاصمة إسرائيل. ومن ثم، ينبغى ألا نتوقف كثيراً أمام تصريحات وزير الخارجية الأمريكى تيلرسون التى قال فيها إن وضع مدينة القدس متروك لمفاوضات الوضع النهائى، فهذه التصريحات هى لمجرد الاستهلاك الإعلامى، ومواصلة سياسة خداع الشعوب العربية. ولما كان المخطط الأمريكى الإسرائيلى واضحاً، فإن رد الفعل العربى ينبغى أن يكون على ذات القدر من الوضوح، وهو ما نتناوله فى المقال المقبل.