يدفع الفلسطينيون خاصة والعرب عامة ثمن الارتكان إلى وساطة نزيهة متخيلة وليست واقعية للولايات المتحدة، التى ظلت تحتكر ما يعرف برعاية عملية السلام لمدة أكثر من 30 عاماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتبدو الآن وقد وصلت إلى نقطة النهاية دون خطوة واحدة للأمام، وبالرغم من خطورة القرار الأمريكى بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإن الأهمية الأكبر تتعلق الآن بماهية الخطوة التى يمكن أن يقدم عليها الفلسطينيون والعرب من أجل إحياء عملية مفاوضات برعاية دولية وتحت رعاية الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة، والسؤال الذى يطرح نفسه هو هل هناك إمكانية لطرق سبيل جديد للتسوية؟ ثم من هى تلك القوى الدولية التى يمكنها أن تحل كجماعة محل الدور الأمريكى بعد أن حدد خياراته بالانحياز المطلق والمعلن لإسرائيل؟
بداية فإن الخروج من عملية السلام يُعد من الخيارات التى يصعب التفكير فيها، لأنها بذلك تعطى للاحتلال الإسرائيلى حقاً مطلقاً فى أن يعبث بالمصير الفلسطينى كيفما شاء دون أن يلومه أحد، ولعل الوصف الذى قاله أحمد أبوالغيط، أمين جامعة الدول العربية، يوضح المعنى، حين أشار فى المؤتمر الصحفى بعد انتهاء الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب إلى أن المبادرة العربية للسلام «طرح تقليدى موجود والعرب إذا قرروا تجميدها أو سحبها كأنهم يطلقون النار على أنفسهم، لأن لا بديل عنها»، وهى المبادرة التى أطلقها العرب قبل 15 عاماً وأعطوا الحق الحصرى للولايات المتحدة أن تحولها إلى واقع، ولكنها تخلت عنهم.
والآن وبعد هذه المدة الطويلة ومن قبلها اتفاقات أوسلو التى أنشأت السلطة الوطنية الفلسطينية، انتهى الأمر إلى وجود سلطة لا تمارس صلاحياتها إلا فى نطاق محدود ومناطق فلسطينية متباعدة ومقطعة الأوصال وغير مترابطة جغرافياً، وتلتف حولها المستوطنات الإسرائيلية وتمنع تواصلها الطبيعى، وفى الخلفية من ذلك الواقع المرير تُطرح أفكار صهيونية ترافقها إشارات أمريكية غامضة تحدد مصير التسوية الممكنة، التى تقبلها إسرائيل مدعومة بانحياز أمريكى سافر بما لا يزيد على حكم ذاتى للكتل السكانية الفلسطينية فى المنطقتين «أ» و«ب»، وأن يتم ضم باقى الضفة أو ما يعرف بالمنطقة «ج» بما فيها السكان الفلسطينيون للاحتلال الإسرائيلى، واعتبارهم مواطنين إسرائيليين، على أن يُترك لغزة إمكانية أن تعلن نفسها دويلة فلسطينية سواء ألحقت بها أرض إضافية مصرية أو لم يلحق بها أى عمق جغرافى جديد.
وبالرغم من أن هذه التصورات إسرائيلية المصدر، فليس هناك نظرياً ما يحول دون أن تتبناها إدارة ترامب باعتبارها صفقة القرن المزعومة التى بشر بها ترامب منذ مطلع العام الحالى دون أن يحدد هويتها أو عناصرها، ومؤخراً أشارت بعض تقارير أمريكية إلى ما يمكن وصفه بنصائح عربية للرئيس الفلسطينى عباس بالتجاوب مع الأفكار الأمريكية رغم أنها لا تمنح الفلسطينيين دولة وتتضمن التنازل الصريح عن القدس الشريف وعن حق عودة اللاجئين وبقاء الأمن فى الضفة مسئولية إسرائيلية صريحة، قد تكون نوعاً من التمهيد النفسى للعرب والفلسطينيين ألا يأملوا أكثر من الفتات وينسوا تماماً مبدأ الدولة الفلسطينية ذات السيادة، ويقبلوا بما سيعرضه عليهم السيد ترامب، الذى مهد عملياً لمثل هذا الصفقة الخائبة حين أصدر قراره الملعون باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.
إذا جاءت الأفكار الأمريكية الموعودة على النحو السابق أو قريبة منه، فمصيرها الرفض الفلسطينى والعربى لا محالة. لكن سيظل أمامنا الإشكالية الكبرى، وفى ظل الاقتناع بأن الحل العملى والمتفق مع المرجعيات الدولية هو حل الدولتين، هو من سيمكنه أن يقود عملية مفاوضات تتبنى هذا الطرح وتعمل على تطبيقه على أرض الواقع؟ وبداية فإن البحث عن رعاية دولية تحل محل الأمريكيين ليست بالعملية السهلة، فنظام الأمم المتحدة نفسه وما يمنحه للولايات المتحدة من حق النقض داخل مجلس الأمن يسد الطريق أمام أى محاولة لإصدار قرار دولى يدفع المفاوضات برعاية جماعية. صحيح أن هناك بديلاً قانونياً وعملياً وهو اللجوء بعد ذلك إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وفقاً لقرار الاتحاد من أجل السلام، سواء فى دورة خاصة أو اعتيادية لكى تصدر قراراً يحدد أسلوباً دولياً جديداً للمفاوضات، استناداً إلى المرجعيات الدولية الصادرة عن أجهزة المنظمة المختلفة، لكن تلك القرارات ليست ملزمة رغم ما يمكن أن تقدمه من انتصار سياسى ومعنوى كبير للطرف الفلسطينى، وبالتالى ستكون فاقدة للآليات التطبيقية، كما أن الولايات المتحدة وإسرائيل لن يظلا ساكنين، فسوف يعملان ما فى وسعهما للتشويش على هذه العملية، كما أنهما سيرفضان الانصياع لها، ومن ثم نعود إلى المربع ما قبل الصفر، مع ملاحظة أن التسويف والتعطيل اللذين تبرع فيهما إسرائيل يمنحاها مدى زمنياً آخر من أجل الإيغال فى الاستيطان على كل الأراضى الفلسطينية، وهو ما يزيد من تعقيد تطبيق حل الدولتين، حتى إذا تخلينا أو توهمنا أن هناك فرصة قريبة لذلك.
انسداد التسوية على هذا النحو ليس وليد اليوم وليس وليد قرار ترامب المتعسف، ولكنه خلاصة التمسك بأسلوب وبديل واحد ثبت أنه شبه مستحيل الحدوث منذ فترة طويلة، وأذكّر هنا بالتلويح الذى قاله الرئيس عباس فى الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر الماضى أنه «إذا تم تقويض حل الدولتين فليس أمامنا من خيار سوى مواصلة الكفاح والمطالبة بحقوق كاملة لكل سكان فلسطين التاريخية»، صحيح أن البحث عن بديل لحل الدولتين ليس هيناً ويتطلب إعداداً شعبياً ورسمياً هائلاً لمرحلة جديدة من النضال السياسى فى داخل أرض فلسطين التاريخية وخارجها، وفى كافة المؤسسات الدولية، فضلاً عن تضحيات فى الداخل ستكون حتماً هائلة، وقد تواجه بتشكيك هائل وعقبات كبرى، لكن طرح الفكرة على أوسع نطاق وبصورة منهجية وصولاً إلى توافق فلسطينى جماعى بشأنها من حيث الفكرة وطرق النضال السياسى المطلوبة فى الداخل وفى الخارج مع الاستعداد للأثمان المنتظرة، من شأنه أن يشكل نقلة حقيقية وكبرى فى طبيعة الصراع نفسه، إذ سيهدم تماماً المقولات العنصرية بأن إسرائيل دولة نقية لليهود فقط، كما سيجعل الفلسطينيين هم صناع القرار وليس الطرف الآخر، وقد يجد كثير من الفلسطينيين أن هذا التحول أكبر من طاقاتهم وأنه سيؤجل حلمهم فى التمتع بالمواطنة الكاملة على أرضهم التاريخية لسنوات أخرى مقبلة، وهو أمر صحيح لا يمكن إنكاره، ولكن البديل الذى تم استثماره لأربعة عقود يبدو أيضاً كالسراب.