لم ينتظر رئيس الحكومة الإسرائيلى اليمينى المتطرف بنيامين نتنياهو طويلاً بعد اعتراف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، فسرعان ما أقرت حكومته بناء 14 ألف وحدة استيطانية فى القدس، بما فيها القدس الشرقية، وسط جو يملأه الشعور بالزهو والانتصار، فليس هناك فرصة سانحة أفضل من تلك الفرصة لاستكمال المشروع الصهيونى لمحو الهوية العربية والوجود الفلسطينى من القدس وترسيخ الهوية الإسرائيلية تمهيداً لإعلانها عاصمة يهودية خالصة. فالخطوة التالية التى كانت مؤجلة فى أجندة «نتنياهو» هى الاعتراف بيهودية الدولة كما صرح فى وقت سابق بأن هذا الاعتراف من الجانب الفلسطينى هو الطريق الوحيدة لإنجاز السلام المنشود، الطريق الذى رسمه «نتنياهو» وحكومته اليمينية المتطرفة وفق ما يرونه مناسباً لمخططاتهم التوسعية الاستعمارية.
لقد احتلت إسرائيل القدس الغربية عام 1948 وأعلنتها عاصمة لها عام 1949 فى خطوة رفضها المجتمع الدولى، بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، ثم احتلت القدس الشرقية عام 1967. وتنص القرارات الدولية على أن القدس الشرقية، التى تقع ضمن حدودها الأماكن المقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين، أرضٌ محتلة، وهى الجزء الذى يريده الفلسطينيون عاصمةً لدولتهم وترفض إسرائيل. طوال الوقت كان الزعيم الراحل ياسر عرفات لديه الأمل واليقين برفع العلم الفلسطينى على مآذن وكنائس القدس، عاش أصعب محطات النضال الفلسطينى سواء فى الأردن عام 1970 أو محطة الخروج الأصعب من بيروت عام 1982 إلى تونس ومن تونس إلى فلسطين. وفى كل هذه المحطات لم ينل اليأس من عزيمته وحافظ على قول عبارته المشهورة «يرونها بعيدة وأراها قريبة، سيرفع شبل من أشبال فلسطين أو زهرة من زهراتها علم فلسطين على مآذن القدس وكنائسها».
غابت شمس ياسر عرفات ومنذ ذلك الحين انطفأ بريق الحماس الذى كان يشد من أزر الفلسطينيين ويمنحهم الأمل والقوة والتفاؤل فى غد يحمل نسائم الحرية وبشائر الاستقلال، انحرفت البوصلة وتراخى حاملو الراية من بعده، فقد كان يجمعهم من حيث اختلفوا، وتفرقوا من بعد غيابه؛ انفرط العقد وتناثرت حباته، وكان الانقسام والاقتتال والصراع على السلطة عنوان المرحلة من بعده، تنازل تلو الآخر فى مفاوضات عبثية بيزنطية وتهاوى حلم «عرفات» الذى عجل فى بلورة الهوية الفلسطينية ولعب دوراً محورياً فى تحويل مخيمات اللاجئين إلى بؤر للنضال، وساهم بقوة فى تحويل أهلها من متسولين على أبواب وكالة الغوث إلى مناضلين يعتزون بكرامتهم الوطنية ونجح «أبوعمار» فى إعادة اسم فلسطين إلى خريطة المنطقة الجيوسياسية، وكرس استقلالية الحركة الفلسطينية وقرارها الوطنى، وساهم فى نفض الغبار عن القضية وإقناع دول العالم بعدالتها، وبحق هذا الشعب فى الحرية وبناء دولته المستقلة.
الآن دارت العجلة إلى الخلف وتراجع كل ما أسس له الراحل «أبوعمار» وتراجعت القضية لتصبح فى أدنى مستويات الاهتمام العربى والدولى، واستطاعت إسرائيل التهام ما تبقى من الجسد الهزيل فى غفلة من العرب وانشغالهم بأزماتهم وتواطؤ الحليف الأمريكى، بالنسبة لـ«ترامب» فقد أراد أن يخرج من المأزق الذى وجد نفسه فيه بعد فشله الإيفاء بأى من الوعود التى قطعها فى حملته الانتخابية مثل إلغاء الاتفاق النووى مع إيران، وإلغاء خطة «أوباما» للتأمين الصحى، وبناء الجدار العازل مع المكسيك، فضلاً عن إجراء إصلاح شامل فى سياسة الهجرة للولايات المتحدة، أراد إنجاز وعد من وعوده الانتخابية من أجل إرضاء الأمريكيين الذين صوتوا له بناءً عليها لإعادة شعبيته التى بدأ يفقدها فى هذه المرحلة من ولايته بالاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل مع تزايد الضغوط الإسرائيلية، وللضغوط الشديدة من قبَل الأمريكيين الإنجيليين الذين تربطهم علاقة قوية خاصة بإسرائيل والقدس كنائب الرئيس مايكل بينس الذى ينتمى لهذه الطائفة! وشن زعماء المسيحيين الإنجيليين فى الولايات المتحدة حملة دعائية للضغط على الرئيس الأمريكى لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة أبدية لإسرائيل. «ترامب» الغارق حتى أذنيه فى قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية وجد فرصة لصرف نظر الإعلام الأمريكى عن القضية، لا سيما بعد اعتراف مستشاره السابق «مايك فلين» بأنه كذب على المحققين بشأن علاقته مع الروس.
وبالنسبة للعرب فإن السعودية ليس لديها مصلحة فى مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل فى الوقت الراهن، فالهدف السعودى الرئيسى هو التعامل مع إيران، ومن هذا المنطلق تتعامل الرياض مع الموضوع، ومصر تدين الخطوة وترفضها، لكنها مكبلة بحزام الإرهاب والتواطؤ لزعزعة استقرارها الأمنى، وحاولت الأردن حثيثاً إقناع «ترامب» بألا يمس قضية القدس الآن ولاحقاً لما سيترتب على هذه الخطوة من تبعات، بحكم وصايتها التاريخية على القدس والأماكن المقدسة، بينما استغل الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الفراغ العربى وتحالفه مع محور الإخوان لقطع العلاقات مع إسرائيل، التى لم تتلق وزارة الخارجية الإسرائيلية إشعاراً بذلك حتى الآن ولن يصلها، فهو يصدر تصريحات نارية كما لو كان رئيساً للفلسطينيين!! أما الفلسطينيون فلم يبق أمامهم خيارات كثيرة، صحيح بدا الرئيس الفلسطينى «أبومازن» غاضباً فى خطابه، لكنه لم يعلن عن اتخاذ خطوة مهمة كحل السلطة مثلاً، كما يطالبه الفلسطينيون، كذلك إسماعيل هنية الذى دعا للانتفاضة، لكن حتى الآن لا أحد يعرف كيف تستمر شرارة البدء كما حدث فى الانتفاضة الأولى منذ ثلاثين عاماً، ويكفى أن يعترف الإسرائيليون بأن «ترامب» لم يقتل عملية السلام فحسب، وإنما وقف على قبرها متفاخراً بأنه الوحيد الذى جرؤ على إعلان وفاتها عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل فى حين أن سابقيه تسلوا بمحاولة إنعاش عملية السلام!!. فهل ستظل القدس قريبة كما رآها «أبوعمار» رغم أنها ابتعدت كثيراً؟!