وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.. لو أننا نحيا فى عالم يميل إلى قدر من العدل، فربما كان الطفل «فارس أبوالنجا» قد أخذ من اسمه نصيباً، وكان قد «نجا» بنفسه بالفعل، ليحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده الثامن عشر، منتقلاً من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب، وربما كان قد بدأ لتوه رحلة البحث عن حلمه، كى لا يُكمل حياته «فارس» بلا جواد.
منذ خمسة أعوام، كان الطفل «فارس» يعيش حياة صعبة مثل أقرانه فى قرية «بلنصورة»، فى مركز أبوقرقاص، بمحافظة المنيا.. فى أحد أيامه العادية الشبيهة ببعضها، ذهب الطفل «فارس» إلى مدرسته فى أول أيام الدراسة، وكانت أمه قد اشترت له ملابس جديدة بمائة جنيه، لم تسدد منها شيئاً بعد، جلس الطفل فى مكانه المتهالك فى الفصل ذى الحوائط المتهدمة، الذى يضم ثلاثة أضعاف سعته، لم يُؤمن أحد المكان خلال الإجازة الصيفية، وبالتالى لم يستقبل «فارس» سوى عقرب أحمر صغير، يبدو أنه خرج من إحدى قصص الرعب لكى يحضر الدرس هو الآخر، ويتزامل مع «فارس»، وربما عشم نفسه بصداقة تدوم طويلاً.. عانق العقرب جسد زميله الصغير الجديد ورحب به بقبلة مسمومة.
أول ما فكر فيه «فارس» الصغير هو ألا يصرخ كى لا تغضب المعلمة (علاقة متميزة بين طفل ومعلمته)، ولكن بعد فترة بدأت قواه فى التهاوى فقرر أن يشكو حاله.. أول ما فعلته المعلمة هى أنها أخرجت الطفل خارج الجنة (الفصل) وأمرته بالذهاب وحده للمدير (مدير مدرسة وليس مدير مستشفى)، خرج الطفل هائماً على وجهه (المدير أصلاً ليست له مواعيد).. فى النهاية صادف الطفل مدرساً عنده رحمة (آه والله)، حمل المدرس الطفل لأقرب وحدة صحية، وطبعاً كانت مغلقة (على أساس أنها طابونة)، نجحت محاولات المدرس والأهالى فى فتح الوحدة.. احتاج الطفل إلى حقنة، ولم يكن بالوحدة سرنجة (للتذكير: القصة واقعية دون تصرف).. ذهب الأهالى لأقرب صيدلية للحصول على المطلوب وفى النهاية اكتشف الجميع أن الوحدة الصحية ليس بها مصل مضاد للدغات العقارب (يوجد فى المستشفيات الكبرى فقط)، المسافة إلى «أبوقرقاص» 30 كيلومتراً، مات «فارس» فى نصفها.
كمالة القصة وقتها أن أحداً من المسئولين لم يتصل بأسرة الطفل أو يتابع الموضوع، بل خرج وقتها موظف بدرجة وكيل لوزارة الصحة يقول إن المصل متوافر فى كل الوحدات الصحية، وإن الوزارة ترش أماكن وجود العقارب، وإن المشكلة حدثت لأن الطفل كان ضعيفاً وإنه ذهب بالفعل إلى المستشفى وتم عمل المطلوب (انظر التذكير السابق).
فى قرية «بلنصورة» ذاتها، وقبل أشهر معدودة من وفاة «فارس» مات شخصان وأصيب أربعة آخرون بسبب معاكسة طالب لابنة جزار أسفرت عن معركة بين عائلتين، وبطل الواقعة كان طفلاً آخر عمره وقتها 15 عاماً.. مات اثنان من أبناء عمومة الطالب، وأصيب اثنان آخران، فضلاً عن إصابة والده وأخيه.. تلك القرية غارقة فى الجهل والفقر والمرض.
ولكن هل تقدمت مصر فى شىء منذ رحيل «فارس»؟ ربما تعطينا الأرقام بعض الدلالات: فى عام وفاة «فارس» كانت الدولة المصرية قد رصدت 703 ملايين جنيه لتمويل برامج الاستهداف الجغرافى لتنمية القرى الأكثر احتياجاً، وهو رقم زهيد لأن عدد تلك القرى 373 قرية (منها 114 فى المنيا وحدها، ومن ضمنها قرية «بلنصورة»).. بالإضافة إلى 538 مليون جنيه موزعة بحسب القطاعات الخدمية، فى كل الـ373 قرية السابقة، منها 215 مليون جنيه للتعليم، و40 مليون جنيه للصحة.
قراءة بسيطة فى توزيع الاستثمارات، بخصوص المنيا، بخطة التنمية المستدامة الحالية (2017/2018)، يعطينا بعض الأمل.. فللمحافظة هذا العام نحو ثلاثة مليارات وربع مليار جنيه، منها 183 مليوناً لخدمات التعليم، و233 للخدمات الصحية.. ربما كانت تلك الأرقام ليست أفضل ما يجب، لكنها بكل تأكيد كل المتاح.. نتمنى أن يكون المقبل أفضل.