الفلسطينيون مصرّون على أداء غير تقليدى فى مواجهة قرار «ترامب» بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. المسألة لا تتعلق بالانتفاضة الشعبية المتواصلة منذ صدور القرار وحتى الآن، ولا ترتبط بموقف حركة حماس التى أكد زعيمها إسماعيل هنية، أمام حشد من أتباعها، أن ما اضطر الأجداد لتمريره عام 1917 (وعد بلفور)، لن يسمح به الأحفاد عام 2017. الأمر لا يتعلق بكل هذه التفاعلات قدر ما يتعلق بالتحول النوعى فى موقف السلطة الفلسطينية. من يراجع خطاب الرئيس محمود عباس «أبومازن» أمام القمة الإسلامية الطارئة الأسبوع الماضى يمكنه أن يستخلص بسهولة حجم التحول فى موقف السلطة، فقد أعلن «عباس» صراحة التحلل من اتفاقية «أوسلو» وانتهاء دور الولايات المتحدة الأمريكية كراعٍ للسلام. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد أعلنت حنان عشراوى، عضو اللجنة التنفيدية لمنظمة التحرير -بعد هذا الخطاب بساعات- أن القيادة الفلسطينية ستتخذ قرارات مصيرية عند عودة الرئيس الفلسطينى محمود عباس إلى رام الله اليوم، وأكدت أن أوسلو لم تعد قائمة، وأن أمريكا أصبحت طرفاً مع الاحتلال.
نحن أمام تحوّل نوعى فى أداء السلطة الفلسطينية. ويبدو أن «أبومازن» تعرض قبل وبعد هذا القرار «الترامبى» لضغوط اضطرته إلى اللجوء إلى «خيار شمشونى» يرتكز على فكرة هدّ المعبد فوق رؤوس الجميع. فى أحيان يصبح هذا الخيار الأكثر منطقية والأشد اتساقاً مع الظرف. تقارير الإعلام الأجنبى أشارت إلى ضغوط عديدة مورست على «أبومازن» -من جانب الطرف السعودى على وجه التحديد- من أجل القبول بصفقة السلام «الصهيو - أمريكى»، ويبدو أن القرار الأمريكى بنقل السفارة إلى القدس كان أولى خطواتها. وربما خُيّر الرجل بين القبول أو ترك الأمر لغيره، فما كان منه إلا أن لجأ إلى الخيار الشمشونى المعتاد فى مثل هذه الأحوال.
الوجه الجديد الذى ظهرت فيه السلطة الفلسطينية -بعد قرار ترامب- سيؤدى إلى عدد من النتائج، أولاها وضع خشبة كبيرة فى عجلة «صفقة القرن» التى يظن المتبنون لها أن بإمكانهم رسم خرائط البشر وتقطيع لحم الدول كما يحلو لهم. ليس ذلك وفقط، بل سيؤدى الوجه الجديد للسلطة الفلسطينية إلى إحراج -وربما تعرية- العديد من الأنظمة العربية، بعد أن برهنت الأحداث المتلاحقة خلال الأيام الماضية على عجزها عن تنفيذ تعليمات الإدارة الأمريكية. تداعيات هذا العجز بدأت فى الظهور، وقد تبدّت واضحة فى المطالبات الأمريكية الغاضبة للمملكة العربية السعودية برفع الحصار عن اليمن حتى تتمكن قوافل الإغاثة من الوصول بالغذاء والدواء إلى المواطنين اليمنيين. ومع إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على إتمام زيارة نائب الرئيس الأمريكى «مايك بنس» إلى المنطقة الأسبوع المقبل، ستجد الأنظمة العربية التى تنوى استقباله نفسها فى موقف حرج. فلا معنى ولا قيمة للتفاوض حول قضية يغيب الطرف الأصيل فيها عن الطاولة، وهو الطرف الفلسطينى. كما أنه لم يعد هناك أية وجاهة لوجود الطرف الأمريكى كراعٍ للسلام فى وقت أصبح يمارس فيه دور الخصم والحكم. الفلسطينيون هذه المرة يؤدون بمنطق «الخيار الشمشونى». وهو خيار يضع الأنظمة العربية فى «خانة اليكّ»!.