للمرة الثالثة أكتب، فى جريدة «الوطن»، عن تغير المشهد الدينى فى المملكة العربية السعودية، بكل ما يترتب عليه من آثار اجتماعية واقتصادية، المقال الأول كان بعنوان: «السعودية تُبدّل الحرام إلى حلال»، حين أصدر العاهل السعودى الملك سلمان بن عبدالعزيز أمراً بإصدار رخص قيادة السيارات للمرأة فى السعودية، ووقتها خرج الأمين العام لهيئة «كبار العلماء» الدكتور فهد الماجد، ليقول: «من المعلوم أن الأحكام الاجتهادية تتغير بتغير المكان والزمان، فقد يكون الحكم بعدم الجواز مرتبطاً بزمن ما، ثم تتطور الأمور وتكثر المصالح، ويجب على العالم الشرعى أن يجدد الفتاوى وينظر فى الموضوع مرة أخرى».. وأوضح «الماجد» أن: (علماء الشريعة كلهم قرروا أن تصرُّف الراعى على الرعية منوط بالمصلحة العامة للرعية، وعليه فإن ولى الأمر لن يختار إلا الأنفع والأصلح بكل قراراته).. ليثبت بذلك أن «السلطة» هى الوحيدة القادرة على تغيير الفكر الدينى وتجديده، مهما كان مدججاً بفتاوى شاذة ومتخلفة تعود بالبلاد إلى أيام الجاهلية!
اللافت للنظر -بحسب موقع «العربية نت»- أن السعودية لم تتحسب ليوم تقود فيه المرأة السيارة وقد تقع فى مخالفة تستلزم «حبسها»، فبدأت المملكة تتساءل: (أين ستسجن المرأة المتسببة بحادث فى السعودية؟).. خاصة بعد السماح للنساء بقيادة الشاحنات متى ما تم استكمال الشروط اللازمة لذلك، والسماح لهن أيضاً بقيادة الدراجات النارية!
وبدأ التنسيق هناك، بين وزارة الداخلية ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية، على استخدام مراكز العناية بالفتيات كمراكز إيقاف فى حال وجود مخالفة تستوجب التوقيف أو حادث مرورى.
المقال الثانى كان بعنوان: «السعودية تُصلح ما أفسده الأزهر!»، وفيه تحدثت عن قرار الملك «سلمان» بإنشاء هيئة للتدقيق فى استخدامات الأحاديث النبوية، بهدف القضاء على النصوص الكاذبة والمتطرفة وأى نصوص تتعارض مع تعاليم الإسلام وتبرر ارتكاب الجرائم والقتل وأعمال الإرهاب.. وتساءلت -آنذاك- لماذا لم يعترض شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب»، أو يتهم «الرياض» بالهجوم على تراث المسلمين، ولم يهدد ويتوعد من مراجعة السعودية للأحاديث النبوية، بينما تعمّد إرهاب الكتّاب والمفكرين والمجددين فى مصر وتونس.. وذكرت فى مقالى أن الإمام الأكبر لا يقتنع بأن (الدستور يحمى حرية الفكر والإبداع والتفكير)، وهى الحريات التى يصادرها الأزهر بمطاردة الكتّاب والمفكرين قضائياً، وأن الأزهر يعادى حتى الفن ويمنع ظهور الخلفاء الراشدين على الشاشة، بينما تنتج قناة Mbc، وهى قناة سعودية، مسلسلاً تاريخياً عن «عمر بن الخطاب»!
الآن، دخلت السعودية عصراً جديداً من الحريات، بقرار إدارة الهيئة العامة للإعلام المرئى والمسموع، فى السعودية، إصدار تراخيص للراغبين فى فتح دور للعرض السينمائى بالمملكة.. وأصدرت «وزارة الثقافة والإعلام» بياناً قالت فيه: «إن محتوى العروض سيخضع للرقابة وفق معايير السياسة الإعلامية للمملكة، وإن العروض ستتوافق مع القيم والثوابت المرعية، بما يتضمن تقديم محتوى مُثرٍ وهادف لا يتعارض مع الأحكام الشرعية».. وهذا حق أصيل لدولة «دينية» يعتمد اقتصادها على «السياحة الدينية» بأكثر مما يعتمد على عائد النفط.
لكن المشهد بكل تفاصيله المتلاحقة يؤكد أن «الدولة الدينية» تخفف من قبضتها الحديدية على الشعب، وأنها أنهت بالفعل مهام واستقلالية هيئة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».. وأنها تتحول -ولو شكلياً- إلى دولة مدنية.
السعودية قررت أن تفتح ولو هامشاً من الحريات لحقوق الإنسان، بحق الترفيه والثقافة، والاعتراف بـ«الإنسان» فى دولة مارست عليه طويلاً ما يسمى بالحدود الشرعية، وبات من المألوف أن ترى فى موسمى الحج والعمرة الأيادى المقطوعة، وهو ما يعد تغييراً جذرياً فى منهج الحكم وتحولاً تدريجياً للأخذ بالقوانين الوضعية، فى بلد يحتكم للمحاكم الشرعية التى لا تحتمل أحكامها الاستئناف، باستثناء القضايا التجارية.. نحن نعرف السعودية كحجاج لبيت الله الحرام، لكن من عمل بها وعاش طويلاً هناك لم تكن خبرته بالحياة جيدة!
السماح بدور العرض السينمائى فى السعودية سوف يحفز النمو والتنوّع الاقتصادى من خلال المساهمة بنحو 90 مليار ريال إلى إجمالى الناتج المحلى، واستحداث أكثر من 30 ألف وظيفة دائمة.. لكن الأهم أننا أمام دولة تعيد رسم خريطتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. دولة أدركت دور «الفن والثقافة» فى التنوير ونبذ العنف والإرهاب.. وهى نفسها الدولة التى صدّرت لنا «الفكر الوهابى» بكل ما فيه من تعصب وتطرف وفتاوى شاذة بدأت بإرضاع الكبير والنقاب الأعور وانتهت بوطء البهيمة!
السؤال -هنا- هل سيصر شيخ الأزهر على تقديس «التراث» الذى بدأت السعودية فى تحطيم أصنامه، أم أن لجنة «مشتركة» ستقوم بـ«النقل» عن السعودية، فتلغى أكل لحم الأسير والزوجة المتوفاة إذا ألغتها السعودية؟
هل ستبقى «المشيخة» على سياسة العناد والمكابرة ومصادرة حق الاجتهاد، والصلف فى مواجهة القيادة السياسية، بعدما أكد الأمين العام لهيئة «كبار العلماء» بالسعودية أن: (ولى الأمر لن يختار إلا الأنفع والأصلح بكل قراراته)؟!
لا أعتقد أن المشيخة ستغير مواقفها المتعنتة، فالصراع بين سلطة الدولة المدنية وسطوة الفاشية الدينية سيظل قائماً حتى تسقط إحدى الدولتين!!