كان متوقعاً استخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض «الفيتو» أمام مجلس الأمن الدولى ضد مشروع قرار دعمته مصر للتراجع عن قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما هددت به «نيكى هايلى»، مندوبة أمريكا فى الأمم المتحدة، خلال الجلسة. «نيكى هايلى» تحدّت المؤسسة الدولية ووصفتها بأنها تتسم بازدواجية المعايير وتعادى إسرائيل!! ونددت بموقف مجلس الأمن بقوة وهى متجهمة الوجه قائلة: «إنها إهانة وصفعة.. لن ننسى هذا الأمر أبداً». وكانت تدافع بشراسة عن إسرائيل كأنها مندوب إسرائيل فى الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة التى تعتبر نفسها وسيطاً نزيهاً فى عملية السلام، «هايلى» قالت إن بلادها لن تسمح لأى دولة بأن تقول لها أين ستنقل سفارتها وإن القدس طالما كانت أرضاً للشعب اليهودى منذ آلاف السنين! وإن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض دفاعاً عن دورها فى الشرق الأوسط، فعن أى دور تتحدث وهى تتبنى موقف إسرائيل قلباً وقالباً؟!
ما ذكرته «هايلى» يؤكد أن وساطة الولايات المتحدة كراعٍ لعملية السلام مجرد «وهم»، وعرضها للأسباب التى حدت ببلادها اتخاذ هذا القرار لا يرقى لأدنى مقومات الحقائق التاريخية أو التعامل بحياد، بل اتسم موقفها بالوقاحة، خاصة أنها اعتذرت عن أن الولايات المتحدة لم تعطل القرار ضد الاستيطان (2343) فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما. فلا يوجد فرق بين موقف الولايات المتحدة وموقف إسرائيل، ويعكس استخدام «الفيتو» بشكل منفرد من قبَل مندوبة الولايات المتحدة مقابل 14 من أعضاء مجلس الأمن الذين وافقوا على المشروع، العزلة الدولية التى تواجهها واشنطن بخصوص نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وهو أيضاً يعنى فعلياً تجاهل مطالب الفلسطينيين فى المدينة التاريخية العريقة، فالخطوة الأمريكية فيها تحدٍّ واضح للمجتمع الدولى بما سيسهم فى تعزيز الفوضى والتطرف بدلاً من الأمن والاستقرار كما تزعم السيدة «هايلى».
إن مسودة القرار التى وزعتها مصر تدعو الدول الأعضاء إلى الامتناع عن نقل بعثاتها الدبلوماسية إلى القدس، كما نصت على أن أى قرارات أحادية الجانب حول وضع مدينة القدس ينبغى ألا يكون لها أثر قانونى ويجب إلغاؤها، وهى تدعم ما اتُخذ بشأنه فى ديسمبر من العام الماضى حين وافق مجلس الأمن على قرار ينص على عدم الاعتراف بأى تعديلات فى خطوط الرابع من يونيو عام 1967 ومن بينها ما يتعلق بالقدس عدا ما يُتفق عليه خلال المفاوضات المشتركة، كما أن دعم 14 عضواً من أعضاء المجلس الـ15 يؤكد مجدداً أن المجتمع الدولى وقف صفاً واحداً فى مواجهة القرار الأمريكى المنحاز والعنصرى ورفضه لأية قرارات تستهدف تغيير وضعية القدس والتأثير السلبى على مستقبل عملية السلام والتسوية الشاملة والعادلة للقضية الفلسطينية، ويكاد هذا يكون الإجماع الأول فى تاريخ الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية.
لقد تفوقت «هايلى» على أكثر الشخصيات الصهيونية تطرفاً وغطرسة، فجلست على المقعد الإسرائيلى، وعندما تقول إن القدس طالما كانت أرضاً للشعب اليهودى منذ آلاف السنين، فهى بذلك تنسف حق الوجود الفلسطينى من أساسه، فكيف سترعى بلادها مفاوضات الوضع النهائى الذى يتضمن القدس والحدود واللاجئين وهى مقتنعة بأنها حق إسرائيلى منذ آلاف السنين؟! والغريب أن يأتى حديث «هايلى» متزامناً مع لقاء صحفى نادر وفيديو موثق خرج للعلن مع رئيسة وزراء إسرائيل السابقة «جولدا مائير» المعروفة بصهيونيتها وراديكاليتها، اعترفت فيه بأن فلسطين هى المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط وحدود العراق بما فى ذلك الضفة الغربية والشرقية، مؤكدة أنها فلسطينية، قالت «مائير» فى اللقاء «أنا فلسطينية منذ عام (1921 - 1948) أحمل جواز السفر الفلسطينى، لم يوجد شىء اسمه يهود وعرب وفلسطينيون، كان فقط عرب ويهود»، وتساءلت جولدا مائير: «ماذا كانت هذه المنطقة قبل الحرب العالمية الأولى عندما تم تفويض بريطانيا على فلسطين؟ ماذا كانت فلسطين حينها؟»، لتجيب بأن «فلسطين كانت كلها من النهر إلى البحر»!
ازدواجية المعايير ومعاداة إسرائيل التى اتهمت بها هايلى الأمم المتحدة هى جريمة وإسقاط سياسى لما تقوم به بلادها طوال عقود من الصراع العربى- الإسرائيلى بانحيازها الكامل والشامل لإسرائيل، فبينما اعترفت جولدا مائير الصهيونية فى لحظة حقيقة بحق الفلسطينيين التاريخى فى فلسطين كانت «هايلى» أكثر صهيونية من المؤسسين الصهيونيين، فأنكرت على الفلسطينيين هذا الحق، وتتمادى فى تبجحها بالدفاع عن قرار «ترامب» متذرعة بأنه جاء لإنقاذ مسيرة السلام وأن استخدام حق النقض «الفيتو» يأتى دفاعاً عن دور الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط! فكيف ينجز السلام المنشود القائم على العدل وقد اتُخذ مسبقاً قرار تصفيته والإقرار لإسرائيل بما اغتصبته وليس ما تمتلكه؟
إن الولايات المتحدة الأمريكية التى تدافع عنها «هايلى» اختارت ألا تكون وسيطاً فى عملية السلام بعد أن تبنت المشروع الصهيونى فى الأراضى الفلسطينية، وكما قال الرئيس أبومازن: «كنا مخدوعين عندما رضينا بأن تكون أمريكا منتدبة على أرضنا مكان بريطانيا»، لكن ذلك لا يكفى فلسطينياً، فما جرى فى مجلس الأمن يؤكد أهمية العمل بحزم فى مواجهة قرار «ترامب» بالكثير من الإجراءات وأهمها إنجاز المصالحة وتذليل العقبات وتوحيد الصف الفلسطينى واللجوء إلى مؤسسات المجتمع الدولى والتحرر من كل الاتفاقيات والقيود مع ضرورة تصعيد الانتفاضة والمقاومة الشعبية وحركة المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل والعمل على إحالة مسئوليها إلى محكمة الجنايات الدولية والانضمام إلى كافة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومنظمات الأمم المتحدة دون استثناء، بشرط أن يتم ذلك بحكمة ودقة لتفويت الفرصة على أمريكا وإسرائيل لاستغلال أى ثغرة قد تقلب موازين اللعبة إلى صالح إسرائيل.