فى الوقت الذى تحتشد فيه القوات المسلحة ورجال المؤسسة الأمنية لمواجهة الإرهابيين أعضاء «داعش والإخوان وغيرهم من العقائديين» ممن يتجمعون فى سيناء أو يتسللون إليها عبر الأنفاق أو أولئك الذين يحتشدون على حدودنا، إلى جانب بقاياهم فى العراق الذين يترقبون الفرصة لمحاولة التسلل إلى الأراضى المصرية، فإن هناك ملايين غيرهم يعيشون بيننا دون أن ننتبه إليهم!
أسفل كبارى القاهرة الكبرى وغيرها من عواصم المحافظات، وفى حدائقها العامة إن وُجدت، وفى مداخل عماراتها تحت الإنشاء ومخازن القطارات، فرضت ظروف ما كانت تسمى أسرهم على نحو 3 ملايين طفل الإقامة الجبرية، ليصبح كل منهم «مشروع إرهابى» وليمثلوا فى نهاية الأمر بؤرة تهديد لمجتمع أصبح فى غير حاجة للمزيد من أسباب تهديده!!
ثياب رثة.. وجوه شاحبة.. عيون زائغة.. نظرات تحمل كل معانى التحفز للانتقام.. ليست هى فقط كل علامات القهر والذل والحرمان الذى يعيشونه، فحياتهم هى الجحيم بعينه ورحلتهم اليومية صعبة وقاسية ومهينة.. تجدهم فى كل مكان يعانون من قسوة البشر وظلم المجتمع لهم.. إحساس بـ«الدونية» والانكسار انتظاراً للحظة «القصاص» من تلك الظروف التى دفعت بهم إلى ذلك المصير، فيصبحون فريسة سهلة سواء لبضعة جنيهات أو لـ«غسيل الأدمغة» انتظاراً لـ«الجنة الموعودة» فيلفون بيدهم أحزمة ناسفة حول أجسادهم أو يدسون «متفجرات» وسط ساجدين مصلين يلبون نداء ربهم من مئذنة مسجد أو بين جموع مسالمين استجابوا لرنات جرس كنيسة!
شعور بالخوف والرهبة ناتج عن عدم الاستقرار يجتاح ذلك الصغير الذى اختار أو فُرض عليه العيش فى الشارع، فهو لا يثق فى أحد، ويخاف من كل من هو أجنبى لا ينتمى إلى المجموعة الصغيرة التى يتعايش أفرادها معه، ويتملّكه الرعب أمام وجود آخرين يرتدون الأزياء الرسمية «رجال الشرطة»، وكل ذلك يدفعه إلى فقدان الثقة والوعى ويجتاحه التهميش، ويتنامى الإحساس لديه بعدم القدرة على الاندماج من جديد فى المجتمع، ومن ثم يزيد معدل حقده على ذلك المجتمع.
أطفال فقدوا براءتهم وخُنقت أحلامهم، يعيشون فى الشارع، ويتعرضون للاستغلال البشع من طرف ما بهذا الشارع، إما عن طريق تشغيلهم فى ظروف صعبة أو عن طريق الاستغلال الجسدى أو إجبارهم على التسول بعد أن توهّم من كانوا أبرياء فى يوم ما أن لجوءهم للشارع هو نوع من الحرية «الوهمية» والهروب من معايير الحياة الأسرية وتشددها!
بين الحين والآخر تخرج علينا الصحف وقد تصدّرت صفحاتها الأولى سطور تكشف عن أن إحدى المحاكم المصرية قد أصدرت حكماً بالإعدام بحق شخص أو اثنين من زعماء عصابة اعترفا بقتل واغتصاب عدد من أطفال الشوارع فى كافة أنحاء البلاد، ليكتسب هذا المجرم لقب «التوربينى» نسبة إلى أول متهم ارتكب هذه الجرائم!
قبل سنوات عدة خرج علينا «المجلس القومى للطفولة والأمومة» بدراسة فجّرت الأزمة وزلزلت كيان المجتمع.. صرخة انطلقت بأن هناك أكثر من مليونَى طفل مشردين يهيمون على وجوههم فى الشوارع، ويعيش، إن صح تعبير يعيش، 60% منهم فى محافظات القاهرة الكبرى. ويبدو أن المجلس اقتنع بأنه قد أدى دوره كاملاً بمجرد عقد مؤتمر صحفى أو ندوة لإعلان هذا الإحصاء دون أن يتحرك بفاعلية لإعادتهم إلى المجتمع مرة أخرى، مما يرجح زيادة أعدادهم حالياً بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة!!
كان هذا هو موقف «المجلس القومى للطفولة والأمومة» وقتها، إلا أن الأمر لم يتغير كثيراً حتى بعد إعادة تشكيله أكثر من مرة، إذ يبدو أن أعضاءه لا يزالون مصرين على الاكتفاء بأخبار متناثرة فى الصحف، إما عن اجتماعاتهم أو بصورهم، أو بتلك «اللافتة» التى تتصدر واجهة المبنى الذى يشغلونه، وأتحدى أن يستطيع أحد أن يحدد موقعه حتى من بين بعض أعضائه.!! شظايا مأساة ضحايا «التوربينى» المتكررة دائماً ما ترتشق فى صدور العديد من الجهات.. رجال أعمال اكتفوا بما يحققونه من أرباح دون أن يلتفتوا إلى حقيقة دورهم الاجتماعى فى مواجهة قضايا المجتمع، جمعيات ومؤسسات عدة ارتاحت لـ«موضة» تسميتها «مؤسسات المجتمع المدنى» واكتفت بصورة تُنشر فى الاجتماعيات بالصحف لندوة أو اجتماع يضم سيدات أعمال وصفوة المجتمع دون أن يكون لها دور فاعل فى إنهاء هذه المأساة، 104 من الكيانات الحزبية غرقت فى مشاكل وراثة الزعماء واقتسام المناصب القيادية، أمن بات منشغلاً بمواجهة «الإرهاب» دون أن يلتفت إلى هؤلاء «الإرهابيين» الذين لا يزالون «تحت الطبع»، جهاز قومى للشباب قصر اهتماماته على شريحة واحدة، فقطاع الشباب لا يقتصر فقط على هؤلاء المنتظمين فى الجامعات والمعاهد العليا، وقطاع الطلائع ليسوا هم فقط أطفال المدارس، فكل هؤلاء لديهم الحد الأدنى: أربعة جدران حتى وإن كانت آيلة للسقوط فى مبانٍ أُطلق عليها تجاوزا مدارس، أو قاعات مكتظة بالآلاف من الطلاب سُميت «مدرجات جامعية»، وأسرة وإن كانت مفردات قاموس الحياة اليومية لأفرادها لا تعرف سوى كلمة المعاناة!! الغريب أننا كمجتمع نعاقب من يخالف إشارة للمرور بينما نقف مكتوفى الأيدى أمام من يلقى بطفل فى الطريق العام! وهو ما يستدعى تعديلاً تشريعياً لعقاب من يسمى نفسه -تجاوزاً- «أب» وهو يلقى بطفله فى الطريق ليزيد معاناته ومعاناة المجتمع!!
فى النهاية فإن «أطفال الشوارع» باتوا ظاهرة تستوجب علينا جميعاً البحث عن أسلوب جديد للتعامل معها بعيداً عن «تخشيبة الأحداث» فى أقسام الشرطة أو فى أى «إصلاحية» تكاد تقترب من أن تكون «مدرسة لتعليم فنون الإجرام» حتى بعد أن أبدلت اسمها إلى «دار التربية».. وذلك حتى لا نفاجأ ذات يوم بأن هؤلاء الأطفال قد انقسموا إلى فريقين: الأول تقمص دور التوربينى، والثانى قد تحول إلى إرهابى!!