يشكو «سامى» المنجد من الوضع الاقتصادى الصعب.. المواد الخام تضاعفت أسعارها وإيجار المحل زاد ومصروفات بيته تفاقمت. وكلما تعامل مع زبون استشعر أنه «واصل» أو «ثقيل» (بمعنى أنه يشغل منصباً مهماً أو مُطّلع على أمور البلد)، يسأله: «هل سيتحسن الوضع قريباً؟».. «سامى» مطحون، لكن لديه فروق توقيت فى مواعيد التسليم لا تقل عن شهر. وحين يتم التسليم، تجد طقم الصالون قد تفتقت خياطته، وطقم الأنتريه قد انعوجت رسمته. تسأله عن السبب، فيقول إنه مسافة ما ذهب ليصلى العصر والمغرب وعاد فوجئ بالصبى وقد «عك» الدنيا تماماً. ثم يعود إلى الشكوى من الوضع الاقتصادى الصعب والعيشة التى تأبى الحكومة أن تتدخل لتعدلها.
ويتبرم «الشيخ سيد» النجار كثيراً من «داء الزبائن المهبب فى الفصال». يتعاقد معه الزبون على غرفة سفرة ثمنها 15 ألف جنيه بعد شد وجذب. يتفق الطرفان على التسليم بعد 40 يوماً. بعد 75 يوماً يتصل الزبون بـ«الشيخ سيد» فيخبره أن الغرفة جاهزة فيما عدا «الأستر» لكنه يطلب ألفى جنيه إضافية لأن ثمن الخشب ارتفع وأجرة الأستورجى تضاعفت خلال الـ75 يوماً الماضية. يتجادل الاثنان حول أسباب التأخير، فيحكى الشيخ سيد رحلته مع المرض، ومعاناته مع ابنه فى الثانوية العامة، ومعركته مع صاحب البيت الذى يرفض أن يصلح ماسورة المياه. وقبل أن يجبره الزبون على تحديد موعد تسليم وسعر نهائيين، يبادر «الشيخ سيد» إلى الانصراف، فأذان الظهر قد دنا، وهو يؤذن للصلاة فى المسجد المجاور حتى يبارك الله له فى عمله.
أما «الشيخ محمد» الجناينى فهو يشكو الأمرين من مضايقة رجال الشرطة له «فى الرايحة والجاية».. فهو يرتدى جلباباً قصيراً وبنطلوناً قصيراً أيضاً وله لحية طويلة ويغطى رأسه بـ«غترة» خليجية، ويقود دراجة نارية دون لوحة أرقام. اضطر إلى حلق لحيته حتى تتوقف اللجان الشرطية عن توقيفه. وبسؤاله عن سبب الملابس غير المصرية التى يرتديها قال إنه «يقتدى برسول الله (صلى الله عليه وسلم)»! من جهة أخرى، فإن حدائق البيوت التى يرعاها «الشيخ محمد» قد جفت وذبلت وتحولت لصحارى جرداء. يقول «الشيخ محمد» إن السبب العلمى هو أن الأرض غير صالحة للزراعة (رغم أنها ظلت مزروعة على مر 30 عاماً). أما السبب الحقيقى فهو أنها إرادة الله! لكن ما لا يقوله «الشيخ محمد» هو أنه قلما يأتى لرى الحدائق ورعايتها لكنه يرسل ابنه الصغير البالغ من العمر عشر سنوات لينوب عنه.
وبين كل عشرة سائقى تاكسى أبيض، تسعة لا يشغلون العداد.. بعضهم يقسم بأغلظ الأيمانات أن العداد «بايظ» أو «معطوب» أو «ملعوب فيه»، والبعض الآخر يقول بحزم وحسم إن تشغيل العداد «ماعادش جايب همه» لأن البنزين غلى، والسجائر غليت، ومصاريف العيال غليت، وكوباية الشاى غليت، ومن ثم فهو غير ملزم بتشغيل العداد. تسألهم عن تفسيرهم لسبب انصراف كثيرين عنهم إلى «أوبر» و«كريم»، ترد الغالبية بأربع إجابات لا خامس لها: لأنها أرزاق، لأن «أوبر» و«كريم» عملاء وخونة، لأن الحكومة تحاربهم فى أكل عيشهم، لأن الزبائن ماعندهاش دم. تواجههم بأن «أوبر» و«كريم» فى الواقع أغلى، لكن سياراتهم وخدماتهم أنظف وأرقى ومعروف حسابها دون فصال أو كذب. فيأتى الرد حاملاً الكثير من الحسبنة وبعضاً من الصعبنة حيث «ربنا على الظالم» و«الفقير دائماً حظه عثر».
يتعثر جميعنا على مدار اليوم فى ملايين الأسطوات الصنايعية وسائقى الأجرة وأصحاب الحرف والمهن اليدوية التى لا غنى عنها؛ نجار، سباك، نقاش، ميكانيكى، حداد، منجد، وغيرهم، بالإضافة إلى مقدمى الخدمات من سائقى أجرة ونادلين فى مطاعم وعمال نظافة وغيرهم. الجميع يشكو شظف العيش وقلة الدخل والعوز الشديد، ولهم كل الحق. لكن ما إن تسأل أحدهم عن نوعية الخدمة أو مصداقية المواعيد أو نوع التقفيل أو شكل الخامة ونوعيتها، حتى تشعر أنك تتحدث فى توافه الأمور. الدخل المادى المحقق لا علاقة له من قريب أو بعيد بنوعية الخدمة التى يقدمونها. هناك فصل تام بين جودة ما يقدمونه والمردود المادى. وهناك إنكار كامل بأن ما يقدمونه بات معيوباً ومعطوباً وذا سمعة بائسة. لكن دائماً ما يرتدى الرد أحد رداءين: إما الفقر والعوز، وإما إنها إرادة الله.
ولأن كل صغيرة وكبيرة فى حياتنا هى إرادة الله، بما فى ذلك ما تقدمه شعوب أخرى من خدمات ومنتجات ذات جودة عالية جداً وبأسلوب بالغ الرقى، فإن عامل الإرادة الربانية سنعتبره أمراً مسلماً به. ولا يبقى لدينا غير محاولة فهم هذا التناقض اللوذعى منزوع المنطق. هو يشكو ضيق ذات اليد. هو يعمل دون ضمير أو التزام أو إتقان أو مراعاة لحق العميل. هو يشكو تقصير الحكومة فى إنقاذه من العوز. هو يلجأ إلى السماء حين يشعر أنه مزنوق بالحجة والبرهان.
البراهين الكثيرة لا تؤدى إلا إلى نتيجة واحدة.. هذا الشعب لم يجد من ينبهه إلى أن حقه فى حياة مرتاحة يتزامن وواجبه فى أداء الواجب كما ينبغى. صحيح أن على الدولة أن توفر بديهيات وأبجديات الحياة الكريمة للمواطنين من تعليم وصحة ومواصلات عامة وشبكات صرف صحى ومياه وغيرها، لكن واجب الحكومة لا يتضمن تعيين عسكرى وراء كل عامل وموظف للتأكد من أنه يعمل كما ينبغى، أو أنه يقدم الخدمة دون أن يحمل العميل أو الزبون «جِميل». هذا الشعب أيضاً لم يجد من يحذره من أن تدنى الراتب أو الدخل لا يعنى أن يمد المواطن يده فى جيب المواطن المجاور له ليعوض تدنى الدخل. كما لم يجد من يحاسبه -عقاباً وثواباً- حين يقصر أو يبدع فى عمله.
يا أسطوات مصر، دعكم من مهام المشيخة التى اعتنقتموها دون وجه حق، واتركوا مسائل العقاب الإلهى لمن بيده الأمر، وتوقفوا عن الشكوى من البلاء لا سيما أنكم جزء لا يتجزأ من البلاء الأكبر ألا وهو النفاق.