توجد فى الدراما المصرية شخصية قديمة جداً تُدعى «عبيط القرية» أو «المجذوب» أو «الدرويش»، وهو الذى يظل طوال الأحداث يلف ويدور فى كل مكان ويظنه الناس «أهبل» وغير مدرك، وإذا به فجأة يُحدّث بكل ما رآه أو سمعه عن الناس فى السر وينشره فى العلن، وتكون الفضائح مدوية. هذا ما فعله الأخ «ترامب» والأخت سفيرته فى مجلس الأمن بعد أن وافق أربعة عشر عضواً، بمن فيهم رئيس المجلس، وهو يابانى، ضد صوت واحد فقط هو صوت سيادتها. وهذا التصويت كان على المشروع المصرى بقرار رافض المساس بالوضع القانونى لمدينة القدس باعتبارها أرضاً محتلة منذ عام 1967. وبعد أخذ التصويت ظهرت على وجه السفيرة «نيكى هيلى» علامات الغضب وطقّ الشرار من عينيها وكانت هتتحول للمرأة الخارقة، وكان ممكن تطلّع مسدسها الكاوبوى وتطخ الجميع، وأخرجت الكارت الأحمر اللى اسمه «الفيتو» من جيبها، وأبطلت القرار كعادة الأمريكان من سبعين سنة، ولم يكفها هذا.. بدأت تهزَّأ وتبستف الدول الـ١٤، وقالت: «إن ما حدث اليوم فى مجلس الأمن هو إهانة لن تُنسى، واحنا يا دلعدى ماحدش يقول لنا تحطو سفارتكم فين؟ وما بناخدش أوامر من حد، بلا مجلس أمن بلا خيبة.. وغير كده ورحمة أمى لابعت للرئيس ترامب الفيديو بتاع التصويت عشان يشوف عملتكم السودا ويشوف البهوات اللى اتجرأوا على الولايات المتحدة ورفضوا تصريح (ترامب) بأن القدس عاصمة إسرائيل الأبدية، ولعلمكم هننقل السفارة غصب عن اللى خلفوكم. والرئيس بذات نفسه طلب منى الأسامى نفر.. نفر، وأهيه أساميكم على (الواتس أب) هبعتهاله هو بذات نفسه». وما إن انتهت الأخت «هيلى» من وصلة الردح العالمية، وبعد ما فرشت الملاية للدول الـ١٤.. طلع الأخ «ترامب» وقال: بقى البهوات بياخدوا مننا الملايين والمليارات معونة عشان هما فقرا وعلى الحديدة وبعد كده يصوّتوا ضدنا؟ خلاص خليهم يصوّتوا ومفيش ولا دولار ولا سنت واحد، ونوفر فلوسهم. وهنا كانت الفضيحة المدوية التى فجّرها «عبيط القرية»، فضح الديمقراطية الأمريكانى التى تصدّرها لنا وتلوّح لنا كل حين بالتهديد والوعيد بأن ديمقراطيتكم «ناقصة سوا».. وأن الحكام العرب ديكتاتوريين وياما دافعوا عن «مرسى» بحجة إنه قادم من جوف الصناديق يحمل الأصوات فوق رأسه، وأن ما حدث فى 30 يونيو انقلاب على الديمقراطية، وسبق وقطع المعونة عننا لأن قانون الجمعيات الأهلية ناقص شوية حقوق إنسان.. وهو كرئيس لأمريكا، وهى الآن البلطجى الأعظم، ومش هو بس، كل رؤساء أمريكا كانوا بيدافعوا عن إسرائيل لأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة، وهى اللى بتطبق حقوق الإنسان الإسرائيلى وتقتل الفلسطينى لأن مظلة الحقوق لسه ما جاتش فوق دماغه عشان يبقى إنسان وله حقوق. وضرب «ترامب» بأصوات الدول فى مجلس الأمن عرض الحائط وأصبحت الحقيقة عارية لا يسترها شىء.. لأن مفهوم مجلس الأمن ومفهوم الأمم المتحدة لدى الأخ ترامب أنها منظمات تعمل لحسابه هو فقط، وكل الأصوات، بالذوق أو بالعافية، لازم تبصم بالعشرة على أوامره هوّ واللى قبله. بلا ديمقراطية بلا كلام فارغ. الفرق بينه وبين من قبله من الرؤساء الأمريكان أنهم يعرفون ذلك جيداً ويعملون وفق نفس المخطط، وسبق لهم أن رفعوا «الفيتو» فى وجه العالم من أجل إسرائيل، ولكن كان كل ذلك يتم بذكاء ودون تصريح أو تلميح، والمعنى ظل سنوات فى بطن الشاعر.. واستعملوا المعونة كستار لإخضاع قرارات الدول وسحب البساط من تحت استقلالها وقرارها، وكله كان شغال فل الفل فى الخفاء ومن تحت لتحت.. وأمام الكاميرات كان الرؤساء السابقون يلوّحون بالديمقراطية ويحترمون قرارات الدول حتى لو كانت منسحقة تحت أقدامهم، وظلت الواجهة برّاقة ديمقراطية حرة رائعة أمام العالم.. حتى جاء الأخ ترامب وقلب الترابيزة أمام العالم وفضح وجه أمريكا القبيح فى جملتين: «إننا نعطيكم المعونة لنشترى بها قراراتكم وقناعاتكم وإرادتكم، وإن التجرؤ على معارضة أمريكا أمر جلل يستحق الحرمان والعقاب وقطع المصروف».
وضرب باحترامه لأصوات الدول ومجلس الأمن والأمم المتحدة عرض الحائط، ومثلما قالت سفيرته الحسناء: «إنها إهانة لن تُنسى».. وبعد أربع وعشرين ساعة كانت الجلسة الطارئة للأمم المتحدة، وصدر قرار مدوٍّ لصالح القدس صوّت له 128 صوتاً ضد 9 أصوات، منها أمريكا وإسرائيل طبعاً، ورفضوا بالأغلبية قرار «ترامب».. وأكيد الست «هيلى» جالها مغص والخواجة «ترامب» ضغطه علِى وغالباً هيكتب باقى الأسماء كلها ويتسلى عليهم واحد واحد.. ولكن لا تفرحوا كثيراً بالقرار الأخير الذى قالت عنه السفيرة: «إن الأمم المتحدة معادية لإسرائيل وإن واشنطن سوف تنقل سفارتها إلى القدس ولن يمنعها أحد». القرار سيكون فى ذيل قائمة طويلة من القرارات التى وُضعت فى الأدراج ولم تلتزم إسرائيل بأى منها منذ أول قرار وهو قرار التقسيم عام 1947 وحتى يومنا هذا، وأظن أن العدد يزيد على العشرين قراراً، وكلها صدرت بأغلبية من الأمم المتحدة ولكن البلطجة الإسرائيلية المستندة إلى البلطجة الأمريكية لن تهتز ولن تستسلم حتى لو كان القرار الصادر يضم كل دول العالم.. ليس مهماً.. فكل هذا حدث من قبل، ولكن الجديد هذه المرة أن «عبيط القرية» فضح الفكر الأمريكى وكشف الوجه الحقيقى للسياسة الأمريكية، ولن يلتفت أحد بعد الآن لأى تصريح أمريكى يلوّح بالديمقراطية لأى دولة أو يندد بأى حكم، ديكتاتورياً كان أو حتى نازياً.. سقطت ورقة التوت الأخيرة، وظهر العم سام عارياً أمام العالم.. والبركة فى الأخ «ترامب» وربنا يقويه ويجيب ضلف النظام البلطجى الأعظم ونخلص.