حملت «مريم» المسيحَ إلى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجّار، وآوت إلى ربوة، كما ذكر القرآن الكريم: «وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين». يقول ابن كثير: «وقد اختلف السلف والمفسرون فى المراد بهذه الربوة التى ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين، وهذه صفة غريبة الشكل، وهى أنها ربوة، وهو المكان المرتفع من الأرض الذى أعلاه مستوٍ يقر عليه، وارتفاعه متسع ومع علوه فيه عيون الماء معين، وهو الجارى السارح على وجه الأرض، فقيل المراد المكان الذى ولدت فيه المسيح، وهو نخلة بيت المقدس، ولهذا ناداها من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سرياً، وهو النهر الصغير فى قول جمهور السلف، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق، فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق، وقيل ذلك بمصر كما زعمه مَن زعمه مِن أهل الكتاب ومَن تلقاه عنهم، والله أعلم». واضح أن روايات أهل الكتاب أجمعت فى زمن ظهور الإسلام على أن «مريم» حملت «المسيح» إلى مصر، وهو ما تحفّظ عليه أغلب كُتاب التراث، حين أوّلوا معنى «الربوة» فأشاروا إلى احتمالية أن يكون موضعها بيت المقدس، أو دمشق، رغم أن الأوقع أن يقال إن الرحلة المقدسة كانت إلى مصر، لأنها النقطة الأبعد عن المكائد التى كانت تحاك للمسيح فى موطن ولادته، وهو بيت لحم بفلسطين، كما ترجّح أغلب الروايات.
ومما يدلل على أن مصر كانت مستقر العائلة المقدسة ما يذكره «ابن الأثير» من أن «مريم» نزلت بولدها فى إحدى القرى، وحلّت ضيفة على رئيسها (الدهقان). ويقول فى ذلك: «لما كانت مريم بمصر نزلت على دهقان، وكانت داره يزوى إليها الفقراء والمساكين». وكانت القرى فى ذلك الوقت تنشأ فوق الربا حتى يستطيع أهلها حماية أنفسهم عندما يفيض النيل. يذكر «الطبرى» فى تفسيره للآية الكريمة التى تقول «وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين» ما نقله عن سعيد بن المسيب: «قال إلى ربوة من ربا مصر، قال: ليس الربا إلا فى مصر، والماء حين يرسل تكون الربا عليها القرى، لولا الربا لغرقت تلك القرى». ويعنى ذلك أن ما ذهب إليه «ابن كثير» و«ابن الأثير» وغيرهما من المؤلفين، وهم يتحدثون عن أماكن أخرى غير مصر آوت إليها العائلة المقدسة، لم يكن سوى نوع من المراوغة لأسباب غير مفهومة.
مكث «المسيح» والصدّيقة «مريم» فى مصر اثنتى عشرة سنة، ولما بلغ ثلاث عشرة سنة أمر الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا. يقول ابن كثير: «فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام والعلم بالغيوب، مما يدخرون فى بيوتهم. ولما عاد عيسى وأمّه إلى الشام نزلا بقرية يقال لها ناصرة، وبها سميت النصارى، فأقام إلى أن بلغ ثلاثين سنة، فأوحى الله إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلى الله تعالى ويداوى المرضى والزمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى، ففعل ما أمر به، وأحبّه الناس، وكثر أتباعه، وعلا ذكره».