قُل مسيلمة الكذاب.. أو قرِّبها للعامة والبسطاء وصغار السن وقل مسيلمة الفشّار.. أو حتى بالغ أكثر وأكثر وقل مسيلمة الفشير، فالمعنى فى كل الحالات واحد.. هو الذى يتكلم كذباً ولا يقول الصدق ولا يتحدث به. وهو مصطلح شائع فى العربية ليس نسبة إلى مسيلمة الكاذب فحسب، وإنما قياساً عليه وعلى مضمون فعلته، فمسيلمة مثلاً كاذب فى ادعاء النبوة، إنما ضحك على قومه وعبث بعقولهم بخدعة بسيطة وهى أن يقول كلاماً شبيهاً بالقرآن وهو لغوياً سليم مائة فى المائة ويحوى من البلاغة والسجع ما يحوى لكنه كلام بلا فائدة، بلا أى إضافة، لا علاقة له بكلام السماء لأنه ببساطة لا غيب فيه ولا نبوءة.. فقال مثلاً: «الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل وخرطوم طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل»، وقال: «والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً إهالة وسمناً»، وهكذا فلا جديد ولا إضافة فى أن للفيل خرطوماً طويلاً!! أو أن وضع الماء على الدقيق ثم عجنه وطرحه إلى النار يعطينا خبزاً!!.. فلا فى ذلك خبر ما قبلهم ولا نبأ ما بعدهم ولا سحر ولا حلاوة ولا آيات حيّرت الناس إلى حد اليوم، وبالتالى فلا وحى جاء ولا وحى نزل.. ولكن هكذا كل مسيلمة، يعطينا من طرف اللسان حلاوة كما يقولون، يسعى للنصب على الناس وخداعهم، وبعد قليل، وبعد هتاف بسيط من بعض الأتباع، حتى لو كانوا شركاء اللعبة كلها، يصدق مسيلمة وكل مسيلمة نفسه ويتمادى فى لعبته حتى يكون ضحيتها فى الأخير!
ومن مسيلمة إلى مسيلمة ومن كذاب إلى فشير عانت البشرية وعانى تاريخنا نفسه معاناة مريرة.. من بين طعن ممنهج وبأدوات مختلفة فى كل دعائم وثوابت مقومات الأمة.. تاريخها.. أبطالها.. معاركها.. صمودها.. إلى الانتقال إلى الضرب بمعول فى مقومات بقائها ذاته.. ثقافتها.. قيمها.. أخلاق أبنائها.. وكل عوامل ترابط المجتمع. والآن ينتقلون علناً وصراحة إلى الدخول على خط معارك الشعب نفسه التى فُرضت عليه ولم يدع لها ولم يسع إليها لمجرد أنه يريد تعويض ما فاته وأن يحدد لنفسه مكاناً فوق الأرض وتحت السماء.. والدخول على خط المعارك هنا ليس لإنهائها بل لإبقائها مشتعلة.. وليس من جرم أكبر من الدعوة لأن يُفلت المجرم بجريمته.. أن تبحث له عن مخرج.. أن تنقذه فى لحظاته الأخيرة كعمليات تهريب المجرمين من السجون فى اللحظات الأخيرة من تنفيذ العقوبات، وهى بالمناسبة أشهر مشاهد الأفلام الأمريكية!
وقبل أيام فوجئ الجميع بأوركسترا شامل يعزف معاً وفى وقت واحد معزوفة واحدة بلحن واحد وتناغم تام.. يقول اللحن جملة واحدة: «لا لأحكام الإعدام فى قضايا الإرهاب»، صحيح قيلت بأكثر من نغمة وبأكثر من مدخل على سلم واحد متراقص بالضرورة.. فأحدهم يكتب مطالباً صراحة بذلك وآخر يقول إن المحاكمات مشكوك فى سلامتها! وثالث يدعو للبحث عن حل مناسب يوقف ما يجرى من عنف! والحل عنده هو التفاوض! الطرح القديم الجديد الذى يساوى بين الدولة والعصابة وبين دولة القانون ودولة الإجرام والإرهاب وبين القانون نفسه وبين الخارجين عليه وبين الحق والباطل وبين الشهيد والقاتل!
وقصة حصول هؤلاء على فرص التواصل مع الناس طويلة وتحتاج إلى إعادة كتابتها من جديد لنروى كيفية صناعة «النجم» ليتم تقديمه للناس باعتباره فلتة عصره وأوانه وأنه «أديب عالمى» وأنه حصل على جوائز من هنا ومن هناك وتم تكريمه هنا أو هناك... إلى آخره. لكن هذا الخنجر المسموم المطعون به الوعى الجمعى المصرى يحتاج إلى وقفة، وإلى حين حدوثها نسأل: ما الذى يدفع بعضهم إلى دعوة كتلك؟ تطلب إلغاء أحكام الإعدام وبالتالى ضرب فكرة القصاص الذى هو حياة فى مقتل؟ وما الذى يجعل بعضهم يحملون عبء صدمة آلاف الأسر التى فقدت خيرة أبنائها؟ ما الذى يدفع هؤلاء لأن يسعوا لكسب ود المجرم وخسارة احترام الضحايا؟ ما الدافع؟ هل الدافع فعلاً إنقاذ الوطن؟ وهل الوطن على مشارف الخطر الكبير؟ هل مصر أصلاً على حافة الانهيار ليتقدم من ينقذها؟ وهل هذه حلول أم عقد وألغام وقنابل قد تفجّر الوضع كله؟! فلا يوجد من يمتلك حق التفريط فى الدم!
المؤسف ليس فى الطرح المباشر السطحى لما سبق.. فكل ما سبق نعرفه ونفهمه ونتفهمه.. بل المشكلة فى الهدف الخبيث خلف الطرح.. فكارثى أن يكون الهدف أن تبدو الأمور وكأن مصر تحتاج إلى «مبادرات» لإنقاذها!!! واللعب على هذه الفكرة الشيطانية جريمة وأصحابه يدركون ذلك.. فالكثيرون يعرفون أن المبادرات لا تكون إلا بين طرفين يتقاربان فى القوة وفى المنطق ولا أفق للحل بينهما!!!! والتدخل بالمبادرات لإنهاء الخلاف يأتى منعاً لأن «يستمر بلا حل»! وهكذا كانت المبادرات فى اليمن وسوريا قبل انتصار جيشها.. فهل لذلك أى علاقة بالحرب الدائرة على الإرهاب؟ هل يمتلك الإرهاب أى شرعية أو أى منطق؟ هل لجرائمه ضد الشعب المصرى أى بُعد أخلاقى أو قانونى؟ وهكذا يمكن السير فى طريق الألف سؤال وسؤال.
الكارثة الثانية فى هذا الطرح هى الرسالة المرسلة للإرهابيين أن هناك من يرسل أطواق النجاة وأن الجبهة الأخرى التى تواجه الإرهاب أو التى تبدو كذلك ليست على قلب رجل واحد وأنها متصدعة مفككة.. فترتفع معنويات الشر هناك وتنخفض هنا!
إن أى قراءة لتحليل مضمون كتابات هؤلاء ستجد فكرة أنصاف الحلول والشرخ الدائم للثوابت من أهم الأفكار التى يتم الترويج لها.. لنتأكد، وليس لنكتشف، أن عمليات إلقاء قنابل الدخان فى طريق المصريين مستمرة.. وتحت سماء الضباب الذى تحدثه تتسلل أطروحات بل ويتسلل الإرهاب أو حتى يهرب الإرهابيون ما دام هناك من يختلق المشروعية ويوفر الغطاء.. وإن كانوا حصلوا على مساحات للوجود والكتابة والطرح فلا أقل من أن نوفر مساحات للرد والتفنيد.. حتى لو كان بعضها موجعاً.. بل لا ينبغى إلا أن يكون موجعاً!