كان مدهشاً، الجمع من جميع الأعمار الذى فاجأ الجميع فى قاعة طه حسين بالمركز القومى للترجمة. كان الضيف أكاديمياً من طراز رفيع، الدكتور نزار الصياد الأستاذ بجامعة بيركلى والرجل الذى شغل رئاسة مركز أبحاث الشرق الأوسط لأكثر من عشرين عاماً وتتلمذ على يديه المئات، ليس فقط فى العمارة، تخصصه الرئيسى، ولكن فى الأنثروبولوجى والتاريخ وربما السياسة، فالرجل «حزمة من المعارف» تجعل منظوره، خاصة فى العمارة، مختلفاً غنياً.. دكتور نزار صدرت له أخيراً عن المركز القومى للترجمة الطبعة العربية لكتابه الصادر عن منشورات «جامعة هارفارد» وموضوعه «القاهرة.. تواريخ مدينة». ما الذى يمكن أن تضيفه رؤية جديدة للقاهرة بعد كل ما كُتب عنها عبر العصور؟
الحق أن إجابة السؤال سوف تكون لها وقفة الأسبوع المقبل، لكن المفتتح الذى لا بد أن يستوقفك كان امتلاء قاعة طه حسين بالناس من أعمار وفئات مختلفة. الموضوع ليس «شعبوياً»، ولا ينتمى إلى السياق الذى يدغدغ مشاعر الجماهير مثل السياسة أو الفن.. ما الذى أغرى الجمهور المنهك، المتهم طوال الوقت بأنه رافض للمعرفة، وأن بينه وبين فكرة الثقافة جفوة؟
تشرفت بإدارة الندوة، فى حضور القامة العلمية والثقافية للدكتور نزار الصياد، ولأستاذين كل فى مجاله، الدكتورة المعمارية سهير حواس والأستاذ والزميل الصحفى أيمن الصياد.
حضور الناس من غير المتخصصين فى العمارة ومن غير زملاء المهنة، وتجاوبهم بالتعليق والسؤال، وغيرتهم على ما يجرى للقاهرة، أثار فى داخلى التساؤل حول أحقية الناس فى تلقى «شىء» من بهجة المعرفة، عبر أكثر الوسائل شيوعاً.. فى الصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية، ربما نستطيع بكل ثقة القول إنها مساحات شاحبة، تتصدر المركز الأول فى القابلية للحذف والإلغاء، علاوةً على تقديمها على أنها تخص «فئة».. نقطة زيت تعوم على طبق «فتة».. على الشاشة والقنوات التى تتكلف المليارات، وبعيداً عن «التوك شوز» وتقييمها، لا يحتاج الأمر إلى إفصاح.. الناس أسرى لنمطية غارق معظمها فى ركاكة وتسطيح، والأمر فى النهاية لا يتجاوز توظيف لبعض النجوم والفنانين، مع كل الاحترام الواجب لقيمة الفن، ومضمونه، فإن ما يطرح على الناس محدود ومتكرر.. المعرفة «بهجة».. ولها أساليب فى كيفية توصيلها إلى الجمهور، من المتخصص إلى المتلقى العادى، أشبه بنقل الكهرباء من فولت إلى فولت.. الكهرباء هى هى وما دور «المهنى» احترافياً إلا دور المحول..
اتهام الناس بانصرافها عن «المعرفة» يبدو فيه كثير من التعسف ورغبة البعض من محترفى الإعلام عدم كشف انصرافهم هم أنفسهم عن المعرفة.
الناس تسعى وعلى الإعلام أن يقوم بواجبه، وأن يقر الافتقار.. افتقار أغلبه، ليس إلى مجرد الثقافة والبهجة لكن إلى الإحساس بـ«بهجة المعرفة».