بعد شهور قليلة سيكون الجمهور مصطفاً أمام صناديق الانتخابات لاختيار رئيس للجمهورية، فى ثالث انتخابات رئاسية تعددية تشهدها مصر، بعد انتفاضة يناير 2011.
يرى البعض أن تلك الانتخابات لا تكتسب أهمية كبيرة كتلك التى جرت فى العام 2012، والتى شهدت تنافساً شرساً بين عدد كبير من المرشحين، الذين مثلوا خيارات متعددة وشديدة التباين، وهو أمر يثير المخاوف من ضعف المشاركة، ومع ذلك فإن الآمال قائمة فى أن نشهد انتخابات تتحلى بقدر ملائم من الرشد. من المؤكد أن الرئيس السيسى سيعلن ترشحه، ومن المرجح أنه لن يجد صعوبة فى حسم النتائج لصالحه، فى ظل عدم توافر موارد وظروف موضوعية كافية لوجود مرشح منافس يمتلك حظوظاً معتبرة، ومع ذلك فإننا سنكون بصدد عملية انتخابية تمثل استحقاقاً دستورياً وسياسياً حيوياً، وهى أيضاً ستكون محط أنظار أطراف عديدة فى المجتمع الدولى، وستخضع آلياتها ونتائجها للدرس والفحص.
فإذا أردنا أن نعرف كيف يصوت الجمهور فى الانتخابات، ولماذا يختار مرشحاً بعينه دون سواه، علينا أن نراجع ما توصل إليه الباحثون فى علم الاجتماع السياسى، الذين طوروا نظريات لتوضيح الأسباب التى تحمل الجمهور على التصويت فى اتجاه ما، وبالتالى تحمل القادة والممثلين السياسيين إلى سدة الحكم. ثمة ثلاث نظريات أساسية تفسر السلوك التصويتى للناخبين فى الانتخابات السياسية، وهى نظريات أثبتت نجاعة معتبرة عند تطبيقها فى الواقع العملى فى أكثر من مجتمع، على مدى نحو سبعة عقود. ووفق ما يقوله الباحث المرموق بول لازرفيلد، فإن النظرية الأولى التى تحكم عمليات التصويت تُسمى «النموذج الاجتماعى» Sociological Model of Voting Behavior، حيث تتحكم عوامل اجتماعية فى خيارات الجمهور التصويتية؛ مثل الطبقة، والدين، والعرق، واللغة، والوظيفة.
حينما تكون الأولويات المثارة على المستوى الوطنى تتعلق بمخاوف من فقدان العمل، أو تراجع فى المستويين الاقتصادى والاجتماعى، أو تحديات ذات طابع دينى؛ مثل الإرهاب، أو الهوية، أو مخاوف ذات طابع عرقى، فإن الجماهير المأزومة تبحث عن مُخلص، يعد بتجاوز تلك العوائق.
يذكرنا هذا بما نجح فيه ترامب خلال حملته الانتخابية، التى تركز خطابه السياسى خلالها بوضوح شديد على تلك المخاوف.
بسبب نظرية «النموذج الاجتماعى» فاز هتلر فى الانتخابات العامة التى جرت فى ألمانيا عشية الحرب العالمية الثانية؛ إذ لعب على الهاجس العرقى للجنس الألمانى «الآرى»، مداعباً المشاعر العنصرية والشوفينية لدى الجمهور المأزوم والشاعر بالمذلة إثر هزيمة ألمانيا القاسية فى الحرب العالمية الأولى.
كان هتلر محظوظاً أيضاً لأنه أتى فى أعقاب أزمة اقتصادية خانقة شلت اقتصاد البلاد، وأخذت ملايين المواطنين الألمان من حال اليسر والرفاه إلى الفقر والمعاناة، وأفقدت عدداً كبيراً منهم وظائفهم.
يذكرنا هذا الخيار الاجتماعى للتصويت بالأصوات التى ذهبت إلى محمد مرسى ومنحته منصب الرئيس فى 2012، وأيضاً بالأصوات التى حصدها «الإخوان» و«السلفيون» فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى السابقين، قبل حلهما؛ إذ كان مصدرها التصور الدينى، الذى اختلط بالبعد الاجتماعى، خصوصاً فى أعماق الريف، والمناطق الفقيرة والمهمشة، ما مَثّل مخزناً تصويتياً ضخماً، استفاد منه المتلاعبون بالمشاعر الدينية والانتماءات الطبقية والجغرافية.
أما النظرية الثانية التى طورها الباحث «كامبل»، وتُسمى «الخيار النفسى» Psychological Theory، فتركز على أهمية الأبعاد النفسية للمصوتين أكثر من الأبعاد الاجتماعية؛ مثل هوية الحزب الذى ينتمى إليه المصوت، والإطار الفكرى الذى يحكم خياراته، والتاريخ العائلى للانتماء السياسى له.
وفى هذا الصدد، فإن الجماهير التى ترتبط تاريخياً بحزب يمينى عادة ما تذهب إلى مرشح اليمين، بصرف النظر عما إذا كان يقدم حلولاً لمشكلاتها، أو يظهر قدرات ومهارات سياسية كافية لكى يفوز بثقتها، وهو أمر يفسر إعطاء الكثيرين من أعضاء الحزب الجمهورى أصواتهم لترامب، فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، على الرغم من عدم ثقة قادة كبار فى الحزب فى قدرته على الحكم.
وفى الواقع المحلى، فإن المنتمين تقليدياً إلى الأحزاب ذات الإسناد الدينى عادة ما يصوتون لأصحاب هذا الاتجاه، مهما كانوا بعيدين عن الوجاهة والكفاءة اللازمة للتصدى لشغل المناصب العامة.
ولأن مصر لا تشهد تجربة حزبية نشطة فى هذه الأثناء، ولأن الرئيس السيسى، المرشح الأوفر حظوظاً فى الانتخابات المنتظرة على الأرجح، لا ينتمى إلى حزب سياسى، فإن هذا العنصر لن يلعب دوراً جوهرياً، خصوصاً فى ظل عدم وجود فرص موضوعية لمشاركة أحد المنتمين للتيارات الدينية فى تلك الانتخابات.
ثمة نظرية ثالثة كاشفة، توضح الأسباب التى تقود الجمهور إلى التصويت بوعى ومسئولية فى الانتخابات السياسية، بالشكل الذى يقلل حظوظ القادة الشعبويين، ويمنح الفوز للمرشحين الأكثر قدرة على الأداء السياسى الفعال، مثلما حدث فى الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة؛ إذ توافر لدى الزعيمة اليمينية مارى لوبان مخزن تصويتى من المواطنين الذين تأثروا بخطابها المعادى للأجانب، والمناهض للهجرة، والمناوئ للسياسات الأوروبية، والمهاجم للمؤسسة السياسية التقليدية، لكن خيار الجمهور كان أكثر رشداً من أن يمنحها الفوز.
تجسد الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة انتصار النظرية الثالثة التى تفسر سلوك الجمهور التصويتى فى الانتخابات العامة، وهى النظرية التى طورها الباحث أنتونى دونز، وسماها «الخيار الرشيد» Rational Choice Theory، وهى تعتبر أن المصوتين جماعة من العقلانيين، الذين يتخذون قراراتهم السياسية استناداً إلى تشخيص موضوعى لحاجاتهم، وأهدافهم، خصوصاً فى المجال الاقتصادى.
لقد تنافس فى تلك الانتخابات مرشح اعتمد خطاباً موضوعياً أكثر هدوءاً من منافسيه، وطرح برنامجاً معداً بعناية، رغم كونه سياسياً مغموراً، فلم يخاطب النزعات العنصرية، أو يستخدم أساليب التهييج والحشد التقليدية، وهو الرئيس الحالى ماكرون، الذى واجه مرشحة اعتمدت على النظرية الاجتماعية، حيث خاطبت مشاعر الخوف والشوفينية والعنصرية لدى الجمهور، وتعهدت بتحقيق أهداف غير قابلة للتحقق على أرض الواقع. ووفق نظرية «الخيار الرشيد»، فإن المصوتين يمنحون أصواتهم للقادة الذين يستخدمون خطاباً سياسياً عقلانياً، حافلاً بالأرقام، والمعلومات، والإحصاءات الدقيقة، والذين يمتلكون رؤية متكاملة لمقاربة قضايا العمل العام، ويحملون دراسات جدوى واضحة المعالم، وسياسات مقترحة قابلة للتنفيذ والقياس. لا يهتم أصحاب «الخيار الرشيد» كثيراً بحديث المخاوف، ومداعبة الغرائز، ودغدغة العواطف، ولا يحفلون بالطبقة التى ينتمون إليها، ولا بالحزب الذى صوتوا له فى الانتخابات السابقة، ولا بوضعهم العرقى، أو اللغوى، أو الاجتماعى، أو المنطقة التى ينتمون إليها جغرافياً.
نحن نريد أن يهيمن «الخيار الرشيد» على سلوك المواطنين التصويتى فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما سيتلوها على مستوى المحليات ومجلس النواب.
ولكى يكون لـ«الخيار الرشيد» مكان؛ يجب أن تتوافر الظروف الموضوعية الملائمة والعادلة لكل صاحب فرصة ورغبة فى خوض منافسة نزيهة ومتكافئة، وينبغى أن يتنافس المرشحون عبر خطاب موضوعى يستهدف العقل، ويمتلك أدوات برهنة، ويطرح برامج طموحة وواقعية، تحمل خططاً، وتعد بنتائج قابلة للتحقق وللقياس، بشرط أن يكون الجمهور قادراً على تحكيم العقل، وتحييد مشاعر الإحباط والخوف والانتماءات التقليدية والعصبية، بقدر الإمكان.