الجولة التى قام بها الرئيس التركى أردوغان فى نهاية العام 2017م، وشملت كلاً من السودان وتشاد وتونس، قد يقرأها البعض فى سياق فتح مسارات جديدة للعمل الاستراتيجى التركى، رغم أنها فى صلب مدلولاتها، تعد محطة تتويج لجهود عام كامل لم تتحرك أنقرة بمثله من قبل، ربما ستجدر الإشارة إلى أن الدور التركى بالمنطقة والإقليم حاضر وفاعل منذ العام 2011م، هذا صحيح بالطبع، لكن يظل العام المنصرم هو عام العمل على لملمة الفوضى والإخفاقات، التى أصابت المشروع الذى بدأ خطواته مع ثورات الربيع العربى.
المشروع ضُرب ضربة عميقة ومؤثرة بثورة يونيو 2013م فى مصر، وتمددت توابعها لتكرس إخفاقاً فى كل من تونس وليبيا على التوالى، فى الأولى سقط الحكم الإخوانى بانتخابات رئاسية أعادت ترتيب البيت التونسى، وأبرزت معادلات سياسية جديدة قد تتناقض مع المشروع التركى جزئياً، وفى ليبيا انطلقت «عملية الكرامة» لتسترد القرار والأمن الوطنى من قبضة المشروع، واضطلع الجيش العربى الليبى بالمهمة الثقيلة، لكن ظلت وطأة الجغرافيا وسلاح الميليشيات عائقاً دون تجاوز منتصف الطريق، وتبقى سوريا التى واجه فيها المشروع تعقيدات وزحاماً كثيفاً للمصالح، مثلت قدراً أكبر لتعثره وأسرع لإجهاضه، رغم أن المشروع لم يكن هو المستهدف الرئيسى من عملية تبديل معادلات القوة والنفوذ على الساحة السورية، حيث تظل الأخيرة لها فلك أبعد مداراً من الصراع الإقليمى.
انشغل المشروع التركى طوال عامى 2014 و2015 بمحاولة حصار شظايا القنبلة المصرية، وقطع الطريق على ارتداداتها وتقليصها لأدنى حد ممكن، واعتمد جهده فى هذا الإطار على مسارين، رأى أنهما الأكثر أهمية، الأول تخريب أو تعطيل أى تقارب مصرى خليجى قد يسحب الإقليم إلى إرهاصات «مشروع عربى»، استخدم فى ذلك الاهتمام الخليجى بالملف السورى الذى كان حينها لا يزال ساخناً، وربط الرياض تحديداً بخيوط الوهم حول عمل أنقرة لصالحها كـ«منتج منفذ» على الأرض، والثانى هو إرهاق وإشغال القاهرة بالنشاط الإرهابى وبالحروب الإعلامية، باعتبارهما عنوانين قادرين على التعطيل، واستنزاف الجهد والتركيز، فضلاً عن تقييد الرؤية المصرية طوال الوقت فى مربع الدفاع الذاتى، للحيلولة دون أن تمضى قدماً.
شهد منتصف العام 2016م محطة مهمة لهذا المشروع؛ ففى يوليو من هذا العام جرت وقائع «الانقلاب الفاشل» فى تركيا، ما دفع أردوغان لضرورة النظر فى إدخال «تحديث» عميق على المشروع، والعمل على تسريع وتيرة العمل للانتقال به إلى مرحلة هجومية وإعادة تموضع جديدة، تستثمر الخطوات التى تم إنجازها سابقاً لتبدأ فى البناء عليها، وتبديل مراكز العمل كى تحقق أكبر استفادة ممكنة من تعثر أو تباطؤ الخصوم.
أولى خطوات التحديث على المشروع التركى، تُرجمت فى سوريا بالتقاط خيط المساعدات الروسية والإيرانية التى قُدمت لنظام أردوغان، لحمايته من السقوط جراء الانقلاب، بمبادلتها بتقارب واسع مع كل من موسكو وطهران، والاكتفاء بحصة نفوذ فى سوريا، بديلة عن استحواذ كامل بدا واقعياً أنه بعيد المنال، هذا التخفف تكرر فى الخليج، من خلال استبدال التوافق والعمل «لحساب» كافة عواصمه، بخطوة متطورة من التعاون (العسكرى/ الاستراتيجى) المعلن مع الدوحة، تحقق للمشروع حصاد جديد، على أثره استقرت أنقرة بقواتها العسكرية على ضفاف الخليج العربى، وضربت التماسك الخليجى ليتشظى إلى ثلاثة أقسام، وليقلص إلى حد كبير القدرة على الحركة المشتركة.
ثالث تلك الخطوات؛ جاء مستهدفاً مصر عبر إشعال أطرافها بمشكلات جوار رئيسية، من خلال القفز داخل مناطق اهتمامها التقليدية والتاريخية، بداية من افتتاح «القاعدة العسكرية» بالصومال، وتعميق الشراكة مع مقديشيو لأبعد من ذلك فى أهم نقاط القرن الأفريقى، ومنه إلى إثيوبيا للدخول على أخطر ملف يثير قلق القاهرة، وهو «ملف المياه» الذى لن يكون وحده عنواناً للشراكة ما بين أنقرة وأديس أبابا، وصولاً إلى السودان التى يمكن اختزال كافة تفاصيل المشكلات المستحدثة ما بينها وبين القاهرة، إلى ذات السياق، وبقرار واضح المعالم، ما يرشحها للتفاقم؛ باعتبار انطلاقها «غير العفوى»، واستبعاد الخرطوم العمدى الوصول بها لأى توافق.
رؤساء الأركان الثلاثة، التركى والقطرى والسودانى، واجتماعهم بالخرطوم تزامناً مع زيارة أردوغان لها لم يقتصر على بحث الترتيبات العسكرية المزمع تدشينها فى جزيرة «سواكن»، وفى الساحل الشرقى السودانى. بل اتسع ليشمل أجندة عمل متخمة بالمهام التى سيتم العمل عليها فى دول الجنوب الليبى، امتداداً لخط الساحل والصحراء، المؤهل لاستقبال جزء كبير من النشاط الإرهابى المسلح الذى سينتقل من سوريا.
السودان وتشاد يملكان مفاتيح عديدة للعمل بالداخل الليبى، ومن خلالهما ستدير تركيا العمل فى الداخل الليبى، لضمان استمرارية الفوضى المسلحة والنزاع المناطقى، عبر دعم وتثبيت أوضاع حلفائها فى الغرب الليبى، ومن داخل غرفة عمليات استخباراتية لإدارة حركة ونشاط التنظيمات الإرهابية من السودان، وهذا يفوق فى أهميته أياً مما تم بحثه فى الاجتماع الثلاثى، حيث رصدت له ميزانية كفيلة بقلب المعادلات الأمنية لتلك المنطقة بدرجة كبيرة، التى ستكون حينها قابلة للتمدد والوصول بها لكافة النقاط المستهدفة.
المشروع التركى فى طبعته الجديدة فى القلب منه وعنوانه الرئيسى يتمثل فى «إعادة تعويم» المشروع الإخوانى الذى غزا المنطقة عام 2011م، ربما أصابته انتكاسات مؤقتة؛ لكنه لم يمت وهو يعود حاملاً معه قوة دفع هائلة ومعقدة، حيث يحمل فى يمينه حزمة حوافز، يسيل لها لعاب الدول التى تعانى من اختناقات اقتصادية، وفى اليد الأخرى يملك إنفاذ إعادة تموضع «عسكرى/ ميليشياتى»، فضلاً عن جرأة مواجهة باقى عناصر الإقليم، التى يبدو البعض منها متباطئاً أو فاقداً لبوصلة التحرك المقبل، وآخرون ممن هم منشغلون بهموم قضايا أخرى، وقبل هذا وذاك؛ يتسلح المشروع كالعادة التركية الإخوانية الشهيرة، بالقدرة على التمركز فى تقاطعات طرق المصالح والنفوذ، حيث تظل جاهزية الفعل والتأثير سلاحاً ثميناً، مثلها مثل امتلاك أوراق لعب لم ينته، وصراع لم يحسم أمره بعد.