وسط آلاف الجامعات بالولايات المتحدة، وفى واحدة منها، وهى جامعة هارفارد الشهيرة، حاول أستاذان للعلوم السياسية بها هما «ستيفن والت» و«جون ميرشايمر» فى أوائل عام 2006 تقديم بحث عن الدعم الأمريكى لدولة «إسرائيل»، كانت خلاصته أن السياسة الأمريكية تتناقض مع المصالح العليا للشعب الأمريكى، ومجمل السياسات لا يستند إلى معايير استراتيجية أو أخلاقية ورصد البحث الـ140 مليار دولار التى حصلت عليها إسرائيل منذ حرب أكتوبر 73، وكذلك الـ32 قرار فيتو لحمايتها، وغيرها من إجراءات الدعم الأمريكى لها، وانتهى البحث إلى أن القرار الأمريكى خاضع تماماً لجماعات الضغط الداعمة لإسرائيل، وأهمها منظمة «إيباك» التى ترعى العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية، التى تستند إلى عشرات من وسائل الإعلام الأمريكية، وبعد أشهر استقال الدكتور «ستيفن والت» من الجامعة بعد حملة إعلامية قاسية انتهت إلى تشريده من عمله!
السطور السابقة مدخل لفهم عقلية أعداء مصر وكيف تطورت المواجهة من الاغتيال بالتصفية الجسدية إلى الاغتيال المعنوى والأدبى.. وهى مقدمة موضوعية نراها منطقية قبل تأمل التسريبات الأخيرة الخاصة بانتحال شخص ما صفة ضابط فى أحد الأجهزة، وقيامه بتوجيه عدد من «الإعلاميين» والفنانين فى عدد من القضايا السياسية على نحو مغاير للسياسة الرسمية، وعلى رأسها «القدس الشريف»، بعد اعتراف «ترامب» بها عاصمة للعدو الإسرائيلى.. هذه التسريبات لنا عليها ملاحظات كثيرة.. فبعد إجراءات فنية معروفة عن خبراء تكنولوجيا الاتصالات يمكن إخفاء رقم المتصل، فلا يظهر رقمه للآخرين، وبمجرد وجود اتصال بغير رقم أو بظهور جملة «رقم خاص» يُعطى إيحاءً بأن المتصل يمثل جهة مهمة.. ووفقاً لمعلوماتنا فإنه يمكن منح هذه الخاصية للأفراد بعد استكمال إجراءات وأوراق محدّدة، كما أن الخاصية موجودة فى مؤسسات أخرى غير أمنية، مثل «المصرية للاتصالات» وكذلك الجهاز القومى لتنظيم الاتصالات، وكذلك عند الاتصال من الخارج من الهواتف الموجودة بالشوارع.. وإن كان ذلك مستبعداً فى الحالة التى نتحدث عنها، نظراً لهدوء الاتصال، فضلاً عن تسجيله!
ونلاحظ أيضاً استحالة اجتماع «الإعلاميين» والفنانين على تسجيل المكالمات كما هناك استحالة للتنصّت من أجهزة مخابراتية معادية على رقم لا يعرفه أحد من بين عشرات ملايين الأرقام فى مصر، أو رقم لا يظهر فى الاتصال من الأساس، وبالتالى لا يبقى إلا احتمال واحد وحيد، وهو قيام المتصل نفسه بالتسجيل!
ملاحظة أخرى.. لم يقدم تسريب واحد من هذه التسريبات بداية الاتصال، وكيف قام المجهول بتقديم نفسه.. وهل كانوا يعرفونه، وعلى اتصال سابق به، أم هى المرة الأولى.. حتى فى حالة عزمى مجاهد الذى تم اتصاله به أكثر من مرة، فالعبرة أيضاً بالاتصال الأول.. وكيف بدأ وكيف كان.. كما نلاحظ قول المتصل المجهول لعزمى مجاهد إنه «سيرسل سيديهات مع الرائد أو المقدم فلان»! ولا نعرف كيف يمكن لنقيب أن يكلف ويعطى أوامر وتعليمات لرائد أو مقدم! وإن كان الاتصال نفسه يقوم به نقيب فمن باب أولى أن تُرسل الأسطوانة مع مجند مثلاً! رغم أنه يمكن إتقاناً للعملية كلها إرسال أسطوانة فعلاً مع مجهول آخر وتركها لعزمى مجاهد، فتكتمل دائرة اللعبة دون أن يظهر أحد فى العملية كلها.. لأن عزمى مجاهد أو أى شخص مكانه سيعتقد أن الأمر كله سرى!
وفضلاً عن إصرار المتصل على إرسال رسائله من الإلحاح فى موضوع «القدس الشريف»، الذى كرّره عشرات المرات، فضلاً عن رسائل أخرى لإحداث «فتنة» فى مصر.. لكن السؤال الذى سأله الكثيرون: لماذا هؤلاء تحديداً الذين اختار الاتصال بهم؟ وهل هؤلاء هم الأكثر تأثيراً فى الناس؟ أم أن اختيارهم لأنهم مشاهير وقدرتهم على التعامل مع هذا الظرف المفاجئ ستكون أقل بكثير من غيرهم؟ هل منتظر أن ترفض سيدة طيبة كالفنانة عفاف شعيب طلباً لرجل مهم يزعم أنه يمثل الدولة المصرية، الدولة المصرية بحالها؟ وهنا لا ذنب للدولة المصرية بما قدمه البعض فى التسجيلات المزعومة من رغبة فى تقديم خدمات، ومع ذلك يُلفت نظرنا إلى أنه حتى فى حالة التباسهم وقبولهم الملعوب، لم تصدر عن واحد منهم أى إهانة لا للقدس الشريف، ولا للشعب الفلسطينى!
ما جرى ليس غريباً.. ليس فقط لأن الحرب على مصر ممتدة لكل الساحات بجميع أشكالها وأدواتها وإنما أيضاً لتطور أنواع النصب ذاتها.. ففى السجن الآن منتحلون لصفات موظفين كبار برئاسة الجمهورية، بل ذهب بعضهم علناً وفى بجاحة إلى عزاء لمتطرفين، وقدّم «الواجب» كذباً وزوراً، نيابة عن «الدولة»، وهو يدرك العاقبة!
ملاحظة أخيرة فى مضمون التسريب، هى ما قاله المجهول المزيف إن مصر تخشى الانتفاضة، حتى لا تعود حماس لواجهة الأحداث! علماً بأن الانتفاضة بصلبها وقوامها فى تجاربها السابقة كانت فى الأصل بالضفة الغربية، وتقريباً لا وجود لحماس هناك.. وإنما الغلبة والوجود الكاسح لحركة فتح والفصائل الفلسطينية الأخرى، فضلاً عن أن أى ضابط صغير يدرك أن أى انتفاضة هى فى مصلحة مصر، ليس دعماً لأى مفاوضات فحسب، وإنما تأثيراً فى الداخل الإسرائيلى، بل وفى السياحة الإسرائيلية ذاتها، ولما فى ذلك من مصلحة! والمدهش أن كل الإعلاميين المؤثرين والقنوات المعتبرة كانت خلف الموقف المصرى الرسمى المعلن تماماً عكس كلام الضابط المزيف!
يتبقى القول إن مواقف مصر فى عهدها الجديد الذى أعلن رئيسها فيه أنه «غير ملتزم بالأدبيات السابقة للعلاقة مع أمريكا» لم يبدأ من أزمة القدس.. وإنما راجعوا مضابط مجلس الأمن، وطالعوا معارك مندوبنا عمر أبوالعطا، خصوصاً فى معركة القوات متعدّدة الجنسيات التابعة للأمم المتحدة كما راجعوا معركة مندوبنا الآخر بالمقر الأوروبى السفير عمرو بدوى، ومعركته مع المندوبة الأمريكية فى مجلس حقوق الإنسان وغيرها!
أما تفتيش وزير الخارجية الأمريكى كيرى، وسؤاله أثناء استقبال السيسى له أثناء زيارته للهند وبشكل يصل إلى حدود الإهانة عن «هل معك محمول بكاميرا»! فضلاً عن استدعاء السفير الأمريكى السابق بالقاهرة «ستيفن بيكروفت»، وما جرى معه بعد استقبال بلده وفد ما يسمى ببرلمان الإخوان، فكلها إجراءات ومعارك لا يمكن وصفها بالتمثيل، وعلى خلاف الكواليس، ولا يقول ذلك إلا المغرضون أو المجانين!
مواقف مصر معلنة، وهى محل عدم رضا وغيرة من كثيرين يملكون المال للفعل أملاً فى تشويه مصر والتأثير عليها وإرباكها.. لكن لا يمكن أن يفعل ذلك المنظمات الصهيونية ولا الأجهزة الإسرائيلية بأنفسهم وبأيديهم، وإنما تخطط ويتكفل صبيانهم بالتنفيذ فى الخط الممتد من الدوحة - أنقرة - واشنطن.. ومن لا يصدق فليقرأ المقال من جديد ويرى كيف فعلوا بأستاذ علوم سياسية قدم بحثاً صغيراً لم يسمع به أحد، ولم يره أحد. فما بالكم بمصر، وعن القدس وفى الأمم المتحدة؟!