زمان: «محلاها عيشة الفلاح».. الآن: الزراعة تقاوم «الانهيار»
09:52 ص | الإثنين 15 يناير 2018
أحد الفلاحين يجهز الأرض للزراعة
«محلاها عيشة الفلاح»، أغنية شهيرة للموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب، لكن الحال تبدل الآن، إما بسبب اتباع سياسات زراعية خاطئة، أو زراعة محاصيل لا تدر دخلاً مناسباً، أو بسبب الأزمات المتكررة المتمثلة فى نقص مستلزمات العملية الزراعية، كالتقاوى والأسمدة والمبيدات، فى الجمعيات والبنوك الزراعية، ما أفرز «السوق السوداء»، فتدهورت مهنة الزراعة، واستحوذ كبار الملاك على مساحات شاسعة من الأراضى، بشرائها من صغار المزارعين، وانصرف أبناء الفلاحين إلى مهن أخرى، وتركوا مهنة الآباء والأجداد، لأنها لا تتماشى مع الظروف المعيشية الصعبة، التى يعانى منها غالبية العاملين بهذه المهنة فى الوقت الراهن.
ولم يكن بإمكان أكبر المتشائمين أن يتوقع الحالة المتردية التى وصل إليها قطاع الزراعة فى مصر، حتى باتت أقدم مهنة عرفها المصريون، على شفا الانهيار، نتيجة التخبط فى السياسات الحكومية، وغيرها من العوامل التى دفعت الآلاف من العاملين بالزراعة إلى هجرة أراضيهم، والبحث عن مصادر دخل بديلة لهم ولأسرهم، بعدما أصبح ما تجود به الأرض لا يكفى لسد احتياجاتهم، إما بسبب غلاء أسعار مستلزمات الإنتاج، مثل التقاوى والأسمدة والمبيدات، والتى تتحكم فيها «مافيا السوق السوداء»، أو بسبب غش تلك المدخلات، مما تسبب فى ضعف الإنتاج، وتلوث المحاصيل، نتيجة اضطرار العديد من المزارعين، خاصة فى محافظات شمال الدلتا، إلى رى زراعاتهم بمياه الصرف الصحى والزراعى، نظراً لعدم وصول مياه الرى إلى أراضيهم بكميات كافية.
القليوبية: المبيدات المغشوشة ونقص مياه الرى دفعت الفلاحين لهجر «مهنة الأجداد».. والغربية: السبب جفاف الترع ونقص الأسمدة وغياب «المرشد»
ففى محافظة الدقهلية، أكبر محافظات الدلتا، يعيش معظم أهلها على الزراعة، ورغم تعدد المشاكل التى يواجهها قطاع الزراعة بالمحافظة، فإنه ما إن ينتهى الفلاح من حصاد محصول، حتى ينهض ليستعد لزراعة أرضه من جديد، دون ملل أو كلل.
«نزرع ونحصد، وفى النهاية نسبة الربح لا تزيد على 10% فقط، رغم أننا نربى أطفالاً ومعنا أسرة»، هكذا عبر إسماعيل خالد، مزارع، عن معاناته، وقال لـ«الوطن»: «بنشترى الأسمدة من السوق السوداء بأسعار مضاعفة، حتى المبيدات بنشتريها مغشوشة، والدولة بتتفرج علينا واحنا بنعانى، حتى مياه الرى لا تصلنا إلا على فترات»، وأضاف: «زهقنا من كثرة الشكاوى، وما نعانى منه هذا العام يزيد العام المقبل، مشاكلنا مع التقاوى أبدية، ولا يصل إلى الجمعية الزراعية إلا 10% فقط من احتياجاتنا»، وطالب بتدخل الدولة بشكل مباشر لتقديم دعم حقيقى للفلاح من خلال توفير الأسمدة والبذور والمبيدات بجودة عالية وبأسعار مخفضة.
نقيب الفلاحين بالدقهلية، نسيم شوقى البلاسى، قال «إن أولى المشاكل التى نعانى منها هى انعدام الرقابة على المبيدات، وأصبحت بلا جدوى، بالإضافة إلى عدم وجود سعر يغرى الفلاح على زراعة محصول معين، فالآن الجميع زرعوا القمح، ولم تعلن الحكومة عن السعر الجديد له، والمفترض ألا يقل سعر الأردب هذا العام عن 700 جنيه، وكان على الحكومة أن تشجع الفلاح على زراعته بالإعلان عن سعره الجديد قبل بداية الموسم»، كما طالب بالانتهاء من «كارت الفلاح»، الذى يحصل الفلاحون من خلاله على احتياجاتهم من السولار والأعلاف والأسمدة المدعمة.
وفى الشرقية، عبر عدد من الفلاحين، لـ«الوطن»، عن معاناتهم بسبب نقص مستلزمات الزراعة، بقولهم: «السوق السوداء تمص دماءنا، ولا يوجد بديل آخر أمامنا»، وسط غياب دور الجمعيات الزراعية، مما تركهم «فريسة» للتجار، الذين يشترون محاصيلهم بـ«أبخس» الأسعار، وقال مجدى البقرى، مزارع بمركز الحسينية، إن الجمعيات توفر لكل مزارع ما بين 3 أو 4 شكائر أسمدة فقط، ويقوم الفلاح بشراء باقى احتياجاته من الأسمدة على نفقته الخاصة، مشيراً إلى أن فدان القمح، على سبيل المثال، يحتاج إلى 4 أو 5 شكائر أسمدة على الأقل، أما إذا كانت الأرض مزروعة بالبنجر أو الطماطم، فإن الفدان ترتفع حاجته إلى 8 شكاير من الأسمدة، مما يضطر الفلاح إلى شراء باقى الكمية من «السوق السوداء»، موضحاً أن سعر الشيكارة، فى حالة الحصول عليها من الجمعية، يصل إلى 180 جنيهاً، بينما يرتفع سعرها لدى التجار إلى أكثر من 250 جنيهاً.
نقص مياه الرى و«غلاء» مستلزمات الإنتاج الزراعى أبرز مشاكل الفلاحين فى محافظات الدلتا والفلاحون: السوق السوداء سبب تدهور الحرفة.. والدقهلية: التقاوى لا تكفى إلا 10% من مساحة الأرض.. وزراعات الأرز لا تصلها مياه الرى والشرقية: دور الجمعيات الزراعية والحكومة غائب
وفى القليوبية، شكا الفلاحون من مشكلات جمة، دفعت العديد منهم إلى هجرة الزراعة والبحث عن مصادر بديلة للرزق أكثر ربحاً. وقال وائل مسعود، مزارع بمركز الخانكة، إن أهم المشكلات التى يعانى منها الفلاحون فى المحافظة هى نقص مياه الرى، والمبيدات «المغشوشة» ونقص الأسمدة، وسط صمت من قبل المسئولين بمديرية الزراعة والجمعيات، بالإضافة إلى مشكلة ارتفاع أسعار الأسمدة والتقاوى، وعدم توافرها فى الأوقات المناسبة، وفى حالة إذا ما قاموا بشرائها من «السوق السوداء»، لا تكون بالجودة المطلوبة، مما يؤثر على جودة الإنتاج، وكذلك على كميات المحاصيل المنتجة، وبالتالى لا يكفى العائد منها، بعد تسويقها، توفير حياة كريمة لأسرهم، بل أحياناً يجد الكثيرون أنفسهم قد سقطوا فى دائرة الديون.
وبالنسبة للغربية، تُعتبر الزراعة هى مورد الدخل الأول لأبناء المحافظة، البالغ عددهم نحو 5 ملايين و200 ألف نسمة، بينما تبلغ مساحة المحافظة نحو 462 ألف فدان، من بينها 375 ألف فدان أراضٍ زراعية، وقال «السيد صابر»، مزارع من أبناء مركز قطور، إن غالبية الترع تعانى من الجفاف، خاصة فى نهايتها، مما جعل العديد من الفلاحين يلجأون لاستخدام مياه المصارف والمياه الجوفية، وتابع بقوله: «الزرعة هتفسد، والترعة مفيهاش ميه.. مضطر أسقى الأرض من المصرف»، لافتاً إلى أن الغربية من أكبر المحافظات فى زراعة الأرز، بمساحة تُقدر بنحو 180 ألف فدان سنوياً، غير أن أبناء المحافظة فوجئوا بقرار تخفيض المساحة إلى 70 ألف فدان فقط، وهو ما يعنى أقل من نصف المساحة، وذلك بسبب أزمة المياه، بالإضافة إلى تهديد المزارعين بتحرير محاضر ضد المخالفين منهم، وإرسالها إلى النيابة العامة، لدفع غرامات تصل إلى 2400 جنيه.
واعتبر إبراهيم عبده، مهندس زراعى، أن لجوء الفلاحين إلى رى محاصيلهم بمياه المصارف يشكل «كارثة صحية»، وأوضح أن «الجميع يعلمون أن المصارف بها كيماويات المصانع والشركات والصرف الصحى من القرى التى تمر عليها، وهو ما يعنى أن المحصول يصبح موبوءاً بالأمراض»، وأضاف أن الرى بالمياه الجوفية والارتوازية يؤدى إلى ضعف جودة التربة، ويقلل من إنتاج المحاصيل، مطالباً بعدم استخدام المياه الجوفية فى تعويض العجز بمياه الرى، مؤكداً أن «المياه الجوفية ملك الأجيال المقبلة، وعلينا أن نترك لهم ما يساعدهم فى الزراعة».
قال «سعد صبرى» إن منظومة الإرشاد الزراعى غائبة منذ 10 سنوات، ولم يعد للمرشد الزراعى أى دور فى توعية الفلاح بزراعة المحصول واستخدام المبيدات، وتابع قائلاً: «كنا بنشوف المرشد الزراعى يومياً واحنا فى الأرض زمان، كان بيمر علينا، ويقعد جنبنا على راس الأرض، ونسأله فى كل الحاجات، ونطمئن منه على الزرع، دلوقتى اللى عاوز يشوفه يروح له مكتبه فى مبنى الإرشاد، دا إذا كان بابه مفتوح، أو موجود فى مكتبه أصلاً».
ورغم السنوات «العجاف» التى عاشها الفلاحون بمختلف قرى ومراكز البحيرة، بعد أن رفعت الدولة يدها عن دعم الفلاح البسيط، وتركته «فريسة» لتقلبات السوق، فقد رفض غالبيتهم الاستسلام للمشاكل التى تحاصرهم منذ «ثورة 25 يناير»، وتحدث نقيب الفلاحين بالبحيرة، المهندس حمدى شعبان، لـ«الوطن»، قائلاً: «الفلاح مش عارف يلاقيها منين ولا منين، 100 أزمة بتواجه المزارعين داخل الأراضى، والدولة واقفة تتفرج، لدرجة إن فيه فلاحين باعوا الأراضى وبوّروها، وراحوا يبحثوا عن شغل تانى»، وأوضح أن أبرز الأزمات التى تواجه فلاحى البحيرة، فى هذه المرحلة، هى ارتفاع أسعار الأسمدة، والتى يعتمد عليها الفلاحون بشكل أساسى، بسبب تدهور حالة الأرض الزراعية فى العديد من المناطق، بسبب عدم الاعتناء بها، واختفاء دور المرشد الزراعى.
وأكد وكيل وزارة الزراعية بالبحيرة، المهندس سمير الحلاج، فى تصريحات لـ«الوطن»، أن الأسمدة متوافرة فى الجمعيات، ويتم توزيعها على الفلاحين بحسب الحيازات الزراعية، وقال إن هناك رقابة مشددة من المسئولين بالمديرية على عملية توزيع الأسمدة، لضمان حصول الفلاح على احتياجاته منها، وأضاف أن الأسمدة الموجودة فى السوق السوداء، تخضع لرقابة الأجهزة التموينية، بينما ينحصر دور مديرية الزراعة فى حماية ما لديها من حصص مخصصة للفلاحين، ومنع تسريب أى كميات منها إلى تجار السوق السوداء.
غلاء أسعار التقاوى والأسمدة ونقص مياه الرى، أبرز المشكلات التى يعانى منها الفلاحون فى محافظة كفر الشيخ، نظراً لوقوع المحافظة فى نهايات الترع، وقال «محمد عبدالعال»، أحد المزارعين، إن أهم المشاكل التى تواجه الفلاحين هى عدم تحديد أسعار المحاصيل الزراعية قبل زراعتها، وهو ما دفع العديد منهم إلى الإحجام عن زراعة بعض الزراعات، مثل القمح والأرز والبنجر، وأضاف أن «انخفاض أسعار المحاصيل يفتح الباب أمام مافيا التجار للتحكم فى السوق، فى ظل عدم وجود دور فعال لوزارة الزراعة»، وهو ما يؤثر على عدم توريد المحاصيل المختلفة للجمعيات الزراعية، مشيراً فى الوقت نفسه إلى أن ارتفاع أسعار مستلزمات الزراعة، كالبذور والتقاوى والأسمدة، مقارنة بالأسعار المتدنية للمحاصيل، يتسبب فى هجر الفلاحين للزراعة، وزيادة العدوان على الرقعة الزراعية بالمحافظة.
وقال رئيس جمعية الإصلاح الزراعى بكفر الشيخ، مجدى الشراكى، فى تصريحات لـ«الوطن»، إن تقاوى المحاصيل المختلفة متوافرة فى الجمعيات، مؤكداً عودة تقاوى القمح للجمعيات مرة أخرى، اعتباراً من هذا الموسم، بسبب عدم تحديد سعر للقمح، والذى أدى إلى إحجام عدد كبير من الفلاحين عن زراعته فى الأعوام السابقة، مشيراً إلى أنه فى ظل عدم الإعلان عن سعر محدد لتسلم القمح، قبل موسم الزراعة، دفع كثيراً من المزارعين إلى البحث عن بدائل أخرى تكون أكثر ربحاً، لافتاً إلى أن قيام بعض الجمعيات بشراء تقاوى من شركات خاصة، مقابل الحصول على «عمولات»، وعادة ما تكون هذه التقاوى رديئة أو فاسدة، مما يؤدى إلى ضعف إنتاجية الفدان، وينجم عن ذلك تكبيد الفلاحين خسائر كبيرة.
وأضاف أن الفلاحين ما زالوا يعانون بسبب عدم وجود رقابة محكمة، سواء على المنتجات الزراعية والمحاصيل أو على الجمعيات، معتبراً أن عدم الإعلان عن الأسعار قبل زراعة المحاصيل، أكبر مشكلة للفلاح فى كفر الشيخ، وطالب بضرورة أن تُعلن الدولة مسبقاً عن الأسعار، حتى يطمئن المزارعون، كما تحدث عن الدور المفقود للإرشاد الزراعى فى كفر الشيخ، مؤكداً أنه لم تعد لديه كوادر مدربة فى الإدارات، وأصبح يعتمد على وسائل الإعلام فى التوعية، وشدد على ضرورة ضخ كوادر جديدة ليقوم الإرشاد الزراعى بدوره مجدداً، كما كان فى السابق.
وفى دمياط، أعرب «إبراهيم عبدالعزيز»، أحد المزارعين بناحية «كفور الغاب»، عن استيائه بسبب نقص مياه الرى، الأمر الذى دفع العديد من الفلاحين إلى استخدام الصرف «المرتجع»، لرى زراعاتهم، بسبب عدم وصول المياه من «بحر بسنديلة» إلى أراضيهم، مطالباً المسئولين بالعمل على توفير مصدر بديل لمياه الرى، وكذلك دعم المزارعين بصرف حصصهم كاملة من الأسمدة والتقاوى، مؤكداً تراجع إنتاجية فدان القمح من 20 إلى 15 أردباً، نتيجة سوء حالة المياه المستخدمة فى الرى، بينما أكد «أحمد أبوالرجال»، مزارع بنفس المنطقة، إن مياه الرى ملوثة، ويقوم الفلاحون برى زراعاتهم بها منذ 4 سنوات.