عمال بلا أجور ولا تأمينات.. «البركة فى البقشيش والبونص»
«عمال محطات البنزين».. نموذج الاعتماد على «البقشيش»
دون أجور أو تأمينات أو مميزات أخرى يتمتع بها من حصل على وظيفة حكومية أو حتى خاصة، قرروا التخلى عن كل ذلك مقابل «لقمة العيش» التى لم يجدوها سوى فى تلك المجالات، منهم من وقف داخل محطات البنزين، منتظراً «البقشيش» من أصحاب السيارات، وآخرون اعتمدوا على نسبة من المبيعات التى يقومون بترويجها، واتفق الجميع على أن تلك المجالات ليس لها مستقبل، مُتمنين لأبنائهم وظائف ومستقبلاً أفضل.
يقف «جمال عيد»، 50 عاماً، فى منتصف محطة البنزين بمنطقة العباسية، مرتدياً زى الشركة التى يعمل بها، الذى يبدو مختلفاً عن باقى العمال بها بصفته رئيس الوردية، موضحاً أن كل محطات البنزين على مستوى الجمهورية ليس لها راتب، عدا المحطات التى تتبع شركة مصر للبترول لأن من يعمل بها هم فى الأساس موظفون حكوميون، أما باقى محطات البنزين، فيعتمد العاملون بها على البقشيش، قائلاً: «احنا بنعامل الزباين كويس ومش بنجبر حد يدفع بقشيش، اللى عايز يدفع يشكر طبعاً، واللى مش عاوز براحته وهنعامله برضه كويس، والأرزاق بيدى الله، واحنا بنعمل اللى علينا وبنراعى ربنا فى شغلنا بمعاملتنا الكويسة مع الزباين».
ويؤكد «جمال» أن الوردية مدتها 24 ساعة، مقابل 24 ساعة أخرى تليها، «خلاص اتعودنا على كدة وما بتعبش من الوردية الطويلة»، مشيراً إلى أن الجميع يعرف أن عامل محطات البنزين يعتمد بشكل رئيسى على البقشيش، وخاصة أصحاب سيارات الأجرة، مضيفاً: «احنا عندنا عزة نفس ما بنطلبش من حد بقشيش، وما ينفعش إننا نعمل كده أبداً».
جاء «جمال» من الصعيد وتحديداً من المنيا منذ 30 عاماً بحثاً عن فرصة عمل، قائلاً: «لو كنت لاقيت شغل هناك ما كنتش هاجى هنا، وبرضه فى ناس جاية من محافظات وجه بحرى، ومن ساعة ما جيت وانا شغال فى المجال ده، وكنت أتمنى أشتغل فى وظيفة راتبها محدد وأعيش على قدها بس للأسف ملاقيتش، أو حتى أسافر بره مصر بس برضه ما عرفتش، لأن كنت عشان أسافر محتاج عقد عمل سنة 1990 بـ5 آلاف جنيه»، يصمت «جمال» برهة، ثم يقول بنبرة حزينة: «ممكن ييجى يوم وألاقى البقشيش مش مقضى يومى، وعلى سبيل المثال لو عملت 50 جنيه فى اليوم بس هتكفى إزاى مصاريف البيت والعيال، وممكن ييجى يوم بعده وربنا يكرمنى ويعوض اليوم ده، والمتوسط عندنا فى اليوم نحو 100 جنيه، وممكن تنزل أو ترتفع على حسب اليوم والشغل والأسلوب الكويس مع الناس».
«جمال»: «عندنا عزة نفس ومش بنطلب حاجة من حد».. و«إبراهيم»: نصحت ابنى بالبحث عن وظيفة بأجر ثابت.. و«مجدى» يبيع مستحضرات التجميل لزميلاته الطالبات
وعن الوظيفة التى كان يحلم بها على مدار السنوات الماضية، يقول «جمال»: «كنت بحلم بالشغل الثابت، وكانت أمنية حياتى أطلع مدرس، وقدمت الأوراق فى أكتر من وظيفة على التدريس فى البريد ساعتها، لأن فى مجموعة مدرسين زمان حبّبتنى فى التدريس، واشتغلت سنتين فى محو الأمية والعيال اللى عندى كانت كلها بتطلع من الأوائل، وكنت حابب المهنة دى جداً»، موضحاً أن كل الوظائف الحكومية بها مميزات لا تُقارن مع وظيفته، سواء كانت الوظيفة فى التأمينات وكانوا فى وقتها يحتاجون الدبلومات، أو فى التموين الذى كان بعقد، ثم تثبيت.
يشير «جمال» بأصابعه إلى صندوق خشبى داخل المحطة قائلاً: «احنا عاملين الصندوق ده داخل المحطة عشان نجمع فيه أى بقشيش يدفعه الزبون، وفى آخر الوردية بنوزع البقشيش علينا بالتساوى بينا احنا التلاتة ومن غير فرق بين أى حد فينا»، مختتماً حديثه، موضحاً أن عمال محطات البنزين مُعرضون للأمراض الصدرية بسبب رائحة الوقود وعوادم السيارات، مضيفاً: «عشان أبعد عن الأمراض دى وأحمى نفسى لازم أشرب لبن كل يوم».
أما «إبراهيم سيد»، 53 عاماً، ويعمل بين أروقة محطات البنزين منذ عام 1984، فينتهى من ضخ البنزين بإحدى السيارات، ويقف منتظراً زبوناً آخر، يُعانى «إبراهيم» من أزمة الحصول على البقشيش والتعليقات الساخرة من قبل السائقين، قائلاً: «نفسياً بتضايق لما تيجى كذا عربية ورا بعض من غير ما حد فيهم يدفع بقشيش، وبلاقى تعليقات وحشة من الناس تضايقنى جدا زى (خلى فلان يديلك)، والكلام ده يحرق الدم بجد، وممكن تلاقى شخص تانى مثلاً يقولى حط بنزين بـ100 جنيه وأول ما يجيب العداد الـ100 يحسسنى أنه كان هيدفع حاجة ويقولى (معيش فكة وهعوضهالك المرة اللى جاية) ويحط إيده فى جيبه وفى الآخر مبيطلعش حاجة أصلاً، والموضوع ده بيأثر فينا جداً».
يؤكد «إبراهيم» أنه عمل بمحطات البنزين بمصر الجديدة 22 عاماً، أعقبها 8 أعوام بمحطة أخرى بالعباسية، وجميعهم كانوا دون أجور، مضيفاً بنبرة غاضبة: «لغاية دلوقتى بدعى ربنا لو أى شغلانة بره أجيب منها قرش آخر الشهر أحسن لى ألف مرة وبكرامتى من الشغلانة دى، ومش هستنى الزبون يتنّك عليا، ومنهم ناس كبيرة وشباب صغيرة، والشغلانة دى عاوزة واحد شايل مرارته خالص لكن لو وقفت على كل كلمة مش هتقدر تقف فيها ساعتين». وعن سلبيات العمل دون أجر داخل محطات البنزين، يقول «إبراهيم»: «الشغلانة دى على كف عفريت، ده انا بفضل لحد يوم 10 فى الشهر عشان بس أسدد الفلوس اللى عليا من الشهر اللى قبله من كهرباء وإيجار ومياه اللى زادوا بشكل كبير، وممكن أروح البيت بـ60 جنيه، وبحمل هم المواصلات، وأخلى منها 10 جنيه على جنب عشان أروح بيها الوردية لأن مفيش فلوس، وممكن تيجى أوقات مفيش جنيه فى البيت»، موضحاً أن كل ذلك هو طبيعة العمل «الأرزقى»، وأنه قام بتقديم النصيحة إلى ابنه عندما كان يريد العمل معه بمحطة البنزين بالابتعاد عن تلك المهنة نهائياً لأنه ما زال صغيراً ويقع على عاتقه مصاريف كثيرة فى بداية حياته.
وعن اختياره لتلك المهنة فى بداية حياته يقول «إبراهيم»: «أصلاً صنعتى السجاد اليدوى فى منطقة الدراسة، وفى وقت حرب الكويت والعراق الصناعة دى وقفت، وجه حد من المعارف قالى تعالى اشتغل معايا فى البنزينة وسيبك من شغلة الستات، ومن ساعتها وأنا شغال فى المجال ده»، مشيراً إلى أنه لو وجد وظيفة بمرتب مناسب وثابت فى الفترة الحالية سيغادر محطة البنزين فى الحال، وأنه على مدار السنوات الماضية كان يبحث عن وظائف أخرى مناسبة عن طريق الإعلانات فى الجرائد، ولكن كان أغلبهم أفراد أمن.
ويختتم «إبراهيم» حديثه عن سلبيات تلك الوظيفة قائلاً: «الشغلانة دى ملهاش أى مستقبل نهائى ومجرد ما صاحب الشغل اتوفى وابنه أو اخوه ياخدها وممكن ما يعجبوش حد فينا وبنبقى بره ساعتها، وفى محطات تانية بتمضّى العاملين فيها على استمارة 6 فى البداية، وبقالى 30 سنة فى المجال ده ومتأمنش عليا غير فى الـ8 سنين بتوع المحطة دى»، مؤكداً أنه حتى عندما يترقى فى ذلك المجال سيصبح رئيس وردية وفى ذلك الوقت ستزيد المسئوليات على عاتقه فقط، ولن تكون مميزات أخرى.
وعلى الجانب الآخر، بعيداً عن البقشيش ومع عمل دون أجر وتحديداً مجال العمل كمندوب مبيعات يعتمد المقابل المادى على نسبة محددة له من المبيعات، يقول «أحمد مجدى»، طالب بالفرقة الرابعة بكلية الآداب، والذى يعمل مندوب مبيعات فى إحدى شركات مستحضرات التجميل: «انا شغال فى المجال ده من نحو سنتين، وتفكيرى فيها كان بسبب أن والدى طلع على المعاش ومش عاوز أزوّد عليه كمان مصاريفى ومصاريف الكلية والكتب، ففكرت أشتغل حاجة تجيبلى فلوس وتغطى مصاريفى وفى نفس الوقت متضيعليش الوقت لأنى لازم أحضر المحاضرات عشان أخلص الكلية»، موضحاً أن أحد أصدقائه اقترح عليه فى البداية العمل معه فى شركة منتجات تجميل شهيرة، وأنه لن يكون له أجر ثابت ومُحدد، وسيكون مكسبه فقط من خلال بيعه للمنتجات والحصول على نسبة قليلة منها.
ويؤكد «مجدى» أنه فكر كثيراً لأن الوظيفة دون أجر وأنه يحصل على نسبته فقط، «مكنش قدامى حل تانى لحد ما اتخرج بقى وأشوف هشتغل إيه بعد كده»، يصمت «الشاب العشرينى»، ثم يستكمل حديثه عن بداية العمل بذلك المجال: «بدأت أعرض الكتالوج على زمايلى البنات فى الكلية، وفعلاً عجبهم الحاجات وبدأوا يشتروا، وبعد كده كنت أعرف معيدة فى الكلية شافت الكتالوج معانا وطلبت أنها تشترى منى، وهى بلغت باقى الدكاترة وبقيت معتمد على زمايلى والدكاترة اللى أعرفهم»، ويوضح «مجدى» أن هناك من يشترى منه شهرياً، وآخرون يشترون منه كل شهرين أو ثلاثة، مضيفاً: «بيطلعى فى الشهر كله مثلاً 500 جنيه، طبعاً مش مبلغ كبير بس بيساعدنى على مصاريف الكلية وبخفف عن اللى فى البيت شوية، وفى نفس الوقت ما بضيعش محاضراتى، أنا بس بطلب الحاجة بالإنترنت وتجيلى لحد البيت، وعارف كويس أن الشغلانة دى ملهاش مستقبل ولا أى مميزات».