مرآة الحياة
وعى الآدمى هو مرآته للحياة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. هذا الوعى تختلف سعته وحجمه على قدر إدراكه لما هو عليه ومعه فى ماضيه وحاضره وتصوره واستشرافه لما سيحدث أو يتمنى أو يخشى حدوثه.. هذا الوعى لا حدّ لنموه كما لا حدّ لضيقه أو ضموره.. يبدأ فى كل آدمى عن جهالة تامة لأنه يولد لوالدين أو محيطين محكوم كل منهما بنسبة وعيه، وينمو منذ الميلاد ومع أطوار العمر وما يصادف الآدمى فيها، ثم ينتهى بانتهاء حياته على قدر ما بلغه فى رحلتها من النمو والاتساع أو الضيق أو الضمور.
ويستحيل ابتداءً وانتهاءً أن يكون وعى أى حىّ مطابقاً لواقع الحياة أو لتركيب الكون العظيم.. لأن علم الآدمى -كل آدمى طارئ- غير تام الصحة!.. وهذا العلم الذاتى ليس إلّا علماً نسبياً راقبه صاحبه وجرّبه ونجح فيه، فصاغ نجاحه بلغته أو برموزه أو بهما معاً ليتبعه غيره من البشر.. وقد يتكرر نجاحه أو لا يتكرر.. فالنجاح فى حياة البشر مبناه الغالب المتبع ولا يُستثنى من ذلك إلّا الحتمى اللازم الدائم.
يحدث ذلك برغم أن كل آدمى غارق مستغرق فى نفسه وذاته ثم أهله، اللهم إلّا باستثناء قلة نادرة.. ووعى هذه الكثرة مشغول بما عند كل منها من حاله وصحته ومرضه وصغره وشبابه ورجولته وكهولته وشيخوخته.. حفىٌّ بيومه وغده ومأكله ومشربه ويقظته ونومه ومقره وسكنه.. معنىٌّ بما له وما عليه بالعمل والبطالة وبالمجهود والراحة، وملتفت إلى الإنجاب والفقد والوفاق والخصام وإلى الهيئة التى يتخذها عن اعتقاد بأنها تقدم وتمكن له فى عيون الناس!.. وتسهل له الانتقال والاتصال.. وإلى ما يمكنه اغترافه من المتعة والتزين والرياضة واللهو واللعب، وإلى الانشغال بما لديه أو يطمع فى تحقيقه من القوة والنفوذ والثراء، وما يصيبه من الأمل أو اليأس، ومن السرور والبهجة أو الحزن والغم والخوف!
ومن العسير على جمهور الناس، وإن طالت أعماره واتسعت مسالك تبصره وتعمقه، أن يخلص الحىّ حياته من غمار هذا الإغراق أو الاستغراق الدائم التدفق والاتساع الذى لم يفلت منه أحد إلّا نادر النادر!!
لقد تفاقمت فى أيامنا متاعب البشر بتزايد أعدادهم التى فاقت تصور كل من سبقونا، وتفاقمت معها الاختناقات والآلام نتيجة اختلال التوازن الأولى بين المواليد والوفيات، وتفجرت صراعات وصلت إلى حد القوت والغذاء، واتسعت الأخطار والأوضار إلى حد تعريض البشرية للخطر والهلاك!.. ولم تعد للآدمى وسط هذا الأتون إلّا بوصلة وعيه الذى قد تضلله سيئات العادات والأفكار والاعتقادات! هذا الوعى هو صفحة رؤية الآدمى لطريقه، عليه أن يستخلصه ويقطره وينميه ليمتعه ببصيرة نافذة وقدرة خالصة على تعمق الأشياء والاهتداء إلى الحق والصواب!
وانشغال الآدمى هذا الانشغال الكثيف بحياته الخاصة ومتاعبه فيها وآماله الذاتية التى يضع كل همه فى تحقيقها لا يدع له وقتاً، وقد تعوزه الرغبة، لدراسة ما حوله من الموضوعات العامة، وتمحيصها والتأمل فيها، والغالب الأعم أن يتلقى اقتناعاته من الكلمات السائرة، ومن الصوت الأعلى ونوافذ الإعلام التى تقدم الوَجبات الجاهزة، وهى وَجبات محكومة فى كثير من الأحيان برغاب أصحاب المال والجاه، ومن يسيطر منهم على هذا الرافد أو ذاك من روافد الإعلام والإعلان، ولا يغفل هؤلاء، بل هذا هو المرام، تقديم أنفسهم فى ثوب قشيب، وانتحال كل إنجاز وكل مجد، وإنكاره على أصحابه الحقيقيين!
الصناع الحقيقيون للأمجاد
لذلك فإنه لا يعنى ظهور وبروز أصحاب التيجان ولا حاملى عصى الصولجان وأصحاب المال والجاه أنهم بالضرورة هم صُناع المجد.. فواقع الأمر أن صفحات التاريخ من صنع البسطاء فى أغلب الأحوال.. هم الذين يدفعون الثمن بينما القادة هم الذين يضعون أكاليل الغار.. كل ذِكْرٍ أو سمعة أو مجد بُنِىَ ويُبْنى وسيُبنى، إنما كان فى الواقع على أكتاف الآدمى العادى كثير العدد الموجود فى كل مكان وزمان. هذا الآدمى العادى بالنسبة لِذِكْر المذكور وسُمْعِة المشهور ومَجْدِ الماجد هو الأرض والسماء والماء والهواء والزرع والضرع والكون والوجود والعدم والأولى والآخرة.
ذلك أن الذِّكْر ما هو إلّا ذاكرة الناس والسمعة فى آذان الناس والمجد بمجيد الناس. وكل مجيد أو مذكور أو مشهور بطلاً كان أو قديساً أو ملكاً أو زعيماً أو فاتحاً أو قائداً أو عالماً أو فناناً يحيا ويموت فى الناس وبالناس وفى عقول وقلوب الناس..
إن هؤلاء العاديين العديدين المجهولين العاملين فى صمت وصبر، بلا استعراض ولا صخب ولا ضجيج، هم فى الغالب الذين يتدفق بهم نهر الحياة والذين يحفرون مجراه ويشكلون أمواجه وتياراته دون أن تُكتب أسماؤهم على معابره وجسوره ومرافئه أو على اندفاعاته ودواماته وعربداته!!
الآدمى العادى هو دون أن يشعر صانع الأمجاد والشهرات والتاريخ.. ولأنه لا يشعر بدوره هذا الهائل لا يفهمه ولا يحاول فهمه.. بل يغفل عن تقديره الصحيح!
وطالبو المجد والذكر والشهرة يركبون منذ الأزل على أكتاف الإنسان العادى ويخاطبون أحلامه وعواطفه وأمانيه ومخاوفه خطاباً عاماًَ عن بعد.. لأن خطابه مع آخرين عن بعد أنشط لخياله وأدعى لتصوراته وأسرع فى الوصول إلى قلبه وإلى استجابته استجابة المصدق المؤمن المعتقد.. ونحن نسمى ونطلق أوصاف اكتساب الشعبية على الاستيلاء على عقول وقلوب الكتل.. ووسائل الإعلام تقوم بهذا كل ساعة فى كل مكان تمكيناً لشهرة سلعة أو شهرة شخص!.. وزيادة طلب وطالبى الذكر والسمعة والمجد فى هذا العصر أمر طبيعى يساير زيادة نفوذ الكتل وزيادة عدد الناس وزيادة إحساس الآدمى العادى بأهمية وزيادة كفاية وسائل الإعلام فضلاً عن زيادة العائد المادى للذكر والسمعة والمجد زيادة هائلة لم يكن لها مثيل فى الماضى!
من هذه التراكمات المتتالية، الملوّنة برغاب أصحاب النفوذ بصنوفه وأنواعه، المعنيين برسم صورهم وتجميلها وانتحال ما يريدون، تتكون رؤى الناس، واعين أو غير واعين.. دون أن يدركوا فى تسليم آرائهم أنهم يشيحون عن أصحاب الأمجاد الحقيقيين.. الفلاح فى حقله، والعامل فى مصنعه أو ورشته، والحرفى الجاد المخلص فى حرفته، والمهنى العاشق لمهنته المداوم على العطاء فيها.. هؤلاء هم النهر الحقيقى الصامت فى الحياة.
عَبَّرَ أستاذنا يحيى حقى، بعدسته الضامة المتأملة، عن مشهد حضره فى مستهل حياته التى بدأها بالمحاماة لدى تخرجه فى حقوق القاهرة سنة 1925، حين ساقه العمل إلى حضور جلسة النطق بالأحكام فى قضية الاغتيالات الكبرى المتهم فيها أحمد ماهر والنقراشى، وآخرون من البسطاء المغمورين، وإذ يبدأ النطق بأحكام الإدانة، وصدر فيما صدر حكم بإعدام «على فهمى» عامل العنابر هل يعرفه أحد؟! وعقوبات غيره، وَجَمَتْ القاعة فى انتظار باقى الأحكام، فلما نُطِق ببراءة ماهر والنقراشى، ضجت القاعة بالهتاف والأفراح، وامتدت الأيدى من فوق على فهمى لتهنئة الزعيمين، دون أن يلتفت أحد إلى عامل العنابر الذى قُضى بإعدامه، وجلس حسيراً فى القفص ينظر بحيرة وصمت إلى المشهد الجارى، وربما جال فكره فى حياته التى سوف تذهب إلى بارئها دون أن ينتبه إليه أحد!
البسطاء يموتون وغيرهم يضع أكاليل الغار!
هؤلاء البسطاء المغمورون المنسيون، هم عمود الحياة، والصناع الحقيقيون للأمجاد!
لقد تفاقمت فى أيامنا متاعب البشر بتزايد أعدادهم التى فاقت تصور كل من سبقونا