أنت فى حاجة ماسة إلى أن تبحر فى عالم «السوشيال ميديا» بانطلاق وتجرد لمدة معقولة، أو أن تجرى أحاديث مطولة ومتكررة مع شبان ويافعين، لكى تدرك أن فى مصر عالمين مختلفين تمام الاختلاف، وثقافتين متمايزتين تمايزاً تاماً.
سيقول البعض إن لدينا مئات العوالم، وإن الاختلافات والانقسامات والتمايزات تتصل بالأبعاد الديموجرافية، فيما يقول آخرون إنها تتصل بالبعد الاجتماعى والاقتصادى، وسيصر طرف ثالث على أنها تتصل بالأيديولوجية والسياسة.
من جانبى، لا أرفض أى تصنيف من تلك التصنيفات، لكننى أركز اليوم على هذا التمايز والتباين الواضح راهناً بين الكبار والأصغر سناً، بين الأجيال المتقدمة فى العمر وجيل الشباب والمراهقين.
لقد بات لدى هذا الجيل نسق قيم قائم بذاته، ولغة تخاطب مختلفة، ورموز نجهل معظمها، واهتمامات لا تشغلنا.
ورغم أن هذا الجيل يتوزع على بيئات اجتماعية واقتصادية متباينة، وتتفاوت المستويات التعليمية والثقافية لأبنائه تفاوتاً كبيراً، فإن تلك السمات الجامعة، التى تتصل تحديداً بالقيم العالمية السائدة تبدو عاملاً مشتركاً بين قطاعات كبيرة فيه.
نحن نتابع ما يجرى من تطورات سياسية متسارعة ومهمة فى هذه الآونة، ونختلف أو نتفق مع أطرافها ومع الممارسات الصادرة عنها، لكن الأجيال اليافعة والشابة، خصوصاً هؤلاء الذين تلقوا أنواعاً جيدة من التعليم، يظهرون رد فعل مختلفاً عن ردود فعلنا على تلك التطورات.
يبدو لى أن الجيل اليافع والأصغر سناً أكثر ابتعاداً عن تقبل الأخطاء التى نرتكبها أو نتعايش مع وجودها، وأقل قدرة على فهمها أو إيجاد ذرائع لها، وأنه ينصرف إلى حالة من الغضب والذهول والشعور بالعجز حيالها، وللتحايل على ذلك، فإنه يلجأ إلى السخرية منها وتحويلها إلى مادة للضحك.
سيمكننا الاختلاف على طبيعة التطورات الاجتماعية التى تجرى فى دولة شقيقة مثل المملكة العربية السعودية، وسينقسم المحللون إزاء احتمالات تحقيقها النجاح، لكن من الصعب جداً دحض اتساقها مع المزاج السائد بين الجمهور السعودى الأصغر سناً، والأفضل تعليماً، والأكثر اتصالاً بالمفاهيم الحداثية والقيم العالمية.
وسيمكننا انتقاد احتفاء أبناء الدول العربية من الشبان واليافعين بالدورى الإسبانى أو الإنجليزى، وتشجيع لاعبين من فرق هذا الدورى أو ذاك، أو اهتمامهم بنجوم سينما عالميين معينين، أو اتخاذهم بعض النجمات العالميات من عارضات الأزياء ونجمات تليفزيون الواقع كملهمات أو رموز حسية، أو تركيزهم على ارتداء ملابس وأحذية تحمل «ماركات» عالمية براقة، لكننا نعلم أنه من الصعب جداً تغيير ذلك.
تحكم ألمانيا طبقة سياسية تتسم بقدر من المحافظة والاعتدال، لكن تلك الطبقة لا تستطيع أن تسن قوانين أو تنتهج سياسات غير متسقة مع توجهات القطاعات المؤثرة فى الجمهور، لكى تبقى فى مواقع السلطة، ومن هنا فإنها تضطر أحياناً إلى اتخاذ قرارات لا تخدم توجهاتها الأيديولوجية، لأنها ببساطة باتت مطلباً للقطاع المؤثر فى الجمهور. وهو الأمر الذى يفسر الكثير من القرارات التى اتخذتها السلطات الألمانية أخيراً، خصوصاً فى المجال الاجتماعى.
عبر تلك الطريقة تتبدل القيم السائدة فى أى مجتمع، وتنحو نحو منظومة من التقاليد والنزعات العالمية، التى باتت محل ثقة واهتمام ورواج بين قطاعات الأجيال الجديدة، وهو الأمر الذى حدث عبر أوروبا كلها.
لا يوجد اختلاف بين الساسة السعوديين والألمان فى هذا الصدد، إلا فيما يتصل بآليات التنفيذ وطبيعة النظام السياسى، وعندما يخفق نظام ما فى قراءة التطور الحاصل فى بيئة القيم والرموز للقطاع الحيوى فى مواطنيه، فإنه يتخذ خطوات، أو ينتهج سياسات غير شعبية، ولا تحظى بالتأييد والتفهم، وبالتالى، فهو يستفز طاقة المعارضة، ويدخل فى صدامات، يصعب جداً أن يربح نتائجها، بالنظر إلى أن موارده ناضبة، فيما مورد المعارضة (الشباب) متجدد؛ إذ إن الشعوب لا تتوقف عن الإنجاب.
لذلك، علينا أن نتحدث إلى أبنائنا والمحيطين بنا من الشبان واليافعين، وعلينا أن نقرأ بإمعان ما يكتبونه من «بوستات»، وما «يشيرونه» من فيديوهات، وما ينتجونه من «كوميكس»، وما يتداولونه من نكات، وما يقولونه حينما يتحدثون فيما بينهم.
مع الاعتراف بأن ثمة الكثير من التباين بين قطاعات الشباب على أكثر من قاعدة ووفق أكثر من تصنيف، فإن الاتجاه السائد بين المتعلمين، خصوصاً من الشبان، يبدو مخاصماً لما يجرى من ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية فى ذلك التوقيت بالذات.
من المؤكد أن ذرائع الاحتجاج أو التمرد لدى هذه القطاعات الشابة تتصل بصورة مباشرة بالصعوبات والتحديات الاقتصادية التى تواجهها البلاد، أو الأزمة الأمنية والاستهداف الإرهابى، أو حتى انسداد الأفق وتضاؤل الفرص، لكن ثمة سبباً أهم من ذلك يقود إلى حالة الانقطاع الراهنة، ويكرس العزلة، والشعور بالصدمة وعدم التواؤم.
ترى هذه القطاعات الشابة أن ما يجرى راهناً فى الملف السياسى لا يتسق مع الرموز والقيم والأدبيات العالمية التى اطلعت عليها أو قرأت عنها أو درستها.
ثمة قرارات يجب أن تتخذ لصيانة الأمن الوطنى، وهى قرارات قد تكون صعبة ومتجاوزة لمواجهة تحديات ضخمة وخطيرة، لكن تلك القرارات يجب أن تسعى إلى الاتساق مع القانون والدستور من جانب، والقيم العالمية المعتبرة من جانب آخر بقدر الإمكان.
عندما تعجز الدولة عن ذلك، فإن الأضرار تقع، وستكون الأضرار الداخلية متناسبة طردياً مع حالة الإدراك والاهتمام بتلك القيم والرموز العالمية.
فإذا كانت قطاعات مؤثرة فى الجمهور تعرف عن الديمقراطية وتداول السلطة، وتقرأ ما جرى فى الانتخابات الفرنسية والأمريكية، وتتعرف إلى التحليلات بشأن التدافع السياسى الحالى فى هيكل السلطة الألمانية، فإنها لن تكون متفهمة لفكرة «الانتخابات السياسية غير التنافسية».
بالنسبة إلى أولادنا الذين يشاهدون الأفلام الأجنبية على الإنترنت بانتظام، والذين سبق لهم أن سافروا خارج البلاد سواء إلى أوروبا أو الولايات المتحدة، والذين يطالعون الأخبار فى وسائل إعلام دولية بلغات أجنبية، فإن نسق القيم الذى يعتبرونه، وجملة المعايير التى يحترمونها، وحجم المعلومات التى يطلعون عليها، يبدو أكبر وأوضح من أن يسمح لهم بالتساهل مع ما نرتكبه من أخطاء فى ممارستنا السياسية بحق القيم والمعايير والرموز العالمية.
يجب أن نسأل لماذا تغير مزاج هؤلاء الشباب، وراحوا يستمعون إلى أغانى المهرجانات، فى الوقت ذاته الذى يسخرون فيه، من خلال «الكوميكس» و«البوستات»، من المطربين الذين ازدهرت أعمالهم على مدى عقود سابقة.
إنها سنة الحياة، فالتغيير يحدث بإرادتنا أو بدونها، وعندما تأتى الأجيال الجديدة، فإنها تأتى بقيم جديدة ورموز جديدة، وتحتاج إلى معايير جديدة، وعندما نخفق فى تلبية ذلك، يحدث الانقطاع، وتتراكم مشاعر الصدمة، والإحباط، والعجز، وقد يؤدى هذا الكبت لاحقاً إلى الانفجار.
هؤلاء الذين يضعون السماعات فى آذانهم طوال الوقت، ويحولون ما يفعله الساسة إلى «كوميكس» و«بوست» للسخرية، لن يقبلوا باستمرار الأوضاع غير الرشيدة.
والحل يبدأ عندما نفهم أن ما جرى فى حقب سابقة، لا يصلح لليوم أو الغد.