كان لأساتذتى بحياتى تأثير عظيم، وعلاقة مميزة، علاقة حكمها دائماً الحب والاحترام، وغلفتها ابتسامة امتنان من صوبى، وحنو وتشجيع من صوبهم، فحفرت عباراتهم مع علوم الدراسة بعقلى ووجدانى، وكلما كبرت، كلما كبر ذاك النقش المحفور بالذاكرة.
همست لى يوماً مدرّسة الرياضيات بأننى أروع من يجيد قياس حسابات الزوايا ودقة الرسم الهندسى، ثم أثنت على طريقة حل وسرعة المعادلات الصعبة، ثم نظرت إلىّ بحماس قائلة لا بد أن تصبحى مهندسة فى يوم ما، ربما لم تعلم وقتها بأى حقول السعادة زرعتنى!!
وكذا كان رأى مدرسى العلوم (بأننى لا بد أن أكون طبيبة ماهرة، حتى علق الحلم بذهنى والتصق بفؤادى)، أما مدرسو اللغة العربية فقد اقتنعوا دوماً وأقنعونى أن تمكنى من ألفاظ وتراكيب وقواعد اللغة العربية يؤهلنى بجدارة أن أكون أولى الأديبات من الأطفال، فعزز الحلم ودعم بالأدلة (إنها شهادة أساتذتى).
لكنى أحياناً أستدعى من الذاكرة أيضاً نموذجين سلبيين؛ أحدهما لمدرّسة لا أعرفها، عاقبتنى دون أن تسمع سبب وجودى خارج الفصل، بتعسف وغضب قاسٍ غير مبرر ولكنها اشتهرت بهذا السلوك فكنا جميعاً نتحاشاها ونبغض مرورها بالجوار!!!! والموقف الآخر امتعاضى من ذكرى مدرّسة الفيزياء التى جعلتنى أعدل عن فكرة الهندسة لفرط عصبيتها وطائفيتها!! والحمد لله أن النماذج السلبية لم تكن كثيرة لكنها تعلق أيضاً بالذاكرة، فلا شىء ينسى عند الأطفال.
تلك النظرة الوردية والأيام الطيبة والطفولة الهنية الواعدة كان سببها أساتذة كراماً، وإننى لو استطعت لقبّلت الأرض تحت أقدامهم (رحم الله من قضى منهم وأطال الله عمر الباقين وأمدهم بالصحة والعافية).
اعتدت أن أذهب إلى مدرستى سعيدة باسمة، وإن كان بعينى أثر شوق للنوم وسريرى الدافئ، إلا أن محبة واستقبال المدرسين كان الأجمل دائماً، أتذكر تلك الوردة الصباحية بيدى إلى مدرّستى المفضلة، التى كانت تحرص بدورها على تثبيت شارة التفوق بقميصى المدرسى، وتثبيت السعادة والأمل بعقلى.
كان هذا الشغف بالتعلم والتفوق بالتأكيد هاجساً شخصياً وحلماً خاصاً، لكن كان لهذا الحلم رعاة وعرابون هم الأساتذة العظام.
إن العلاقة السوية بين الطالب ومكان تحصيل العلم هى من تصنع السلام بعقل وقلوب التلاميذ، وتجعل الغد باسماً مشرقاً مليئاً بالطموحات والأحلام، إن هذا الإكسير من المحبة والدعم النفسى والذهنى يكون بمثابة تطعيم وتحصين ضد آفات ومصاعب وأزمات الحياة، إن هذه المحبة وذاك الاحتواء واحتضان المهارات وتشجيعها هو ما يصنع الأجيال ويبنى صحة نفسية متينة كجسد صحى معافى ضد أى عدوى أو فيروس.
علاقة المدرس بالتلميذ علاقة مقدسة صورها الفراعنة والرومان والهنود والصينيون بحضاراتهم ودونوها بكتبهم وآثارهم. كانت للمدرس على التلاميذ حقوق الطاعة والاحترام والتبجيل، وكان للتلاميذ حق التعلم كاملاً والإمداد بكل الخبرات والقراءات والتجارب ليكملوا من بعد الطريق، حاملين مشاعل العلم والأخلاق والمعرفة، لهذا كانوا أمماً عظيمة وبنوا حضاراتهم الخالدة، لم تكن حضاراتهم تقوم على العلم وحده، بل كانت تعنى بالأخلاق فتجعل للعلم أخلاقاً وللأخلاق علوماً وتخصصات ودراسات.
وبين الأيام الخوالى وذكريات الطفولة، وبين ما وصل إلينا من حكماء الحضارات القديمة، وبين ما نراه اليوم وما وصَلنا إليه من تدهور لهذه العلاقة (غير القابلة للتدهور)، ليس بمجتمعنا فقط بل عالميا أيضاً، فللحديث بقية.