تفور منطقة الشرق الأوسط بالحروب والنزاعات، ويعانى بعض دولها من تزايد القلاقل واندلاع الاحتجاجات، وينوء بعضها الآخر تحت وطأة التدخلات الخارجية، لكن دولة واحدة تقع فى مرمى الخطر، وتتمركز فى أكثر مواقعه قابلية للتورط، تقف هادئة غير مرتبكة، حيث تبدو أكثر أمناً من نظيراتها، وأقل استهدافاً بالضرر.. إنها سلطنة عمان، التى يزورها الرئيس السيسى حالياً.
ضربت الأزمات المالية العالمية أقاليم عديدة فى قارات العالم كلها، وألقت بظلال كثيفة على معظم دول المنطقة، فتغيرت الحسابات، وتقلصت الميزانيات، وزادت معدلات الديْن العام مقارنة بالنواتج المحلية، وارتفعت الأسعار، وكسدت التجارة، وأحجم المستثمرون عن بعض مشروعاتهم، لكن «السلطنة» كانت أقل تعرضاً للضرر، وأكثر قدرة على الحفاظ على وتيرة النمو والعمل والإنفاق.
تغلى دول عربية وخليجية عدة باحتمالات الفتن الداخلية، بعضها طائفى ومذهبى، حيث يتقاتل أو يتصارع أتباع المذهب الواحد داخل الإسلام، أو على الأقل يتبادلون التضاغط والتلاسن ضمن أجواء محتقنة ومخنوقة بالإزاحة والإقصاء والاستعلاء. وتشهد دول أخرى نزاعات واستهدافاً بين أتباع دينين أو أكثر، فيما ينخرط عدد آخر من المجتمعات العربية فى مشكلات عرقية، لكن «السلطنة» لا تعرف شيئاً من هذا ولا ذاك؛ رغم انطوائها على أتباع الطوائف والمذاهب المختلفة، واتساعها لاحتواء الوافدين من مختلف الأديان والأعراق.
زرت سلطنة عمان أكثر من مرة، وخرجت بانطباع راسخ عن قدر كبير من الثقة والرشد يجلل معظم الممارسات المجتمعية هناك، وبانطباع آخر عن حالة من الهدوء تهيمن على الحركة إلى الأمام، فلا تستحث الركض والهرولة، رغم أنها لا تسمح أبداً بالتوقف أو الارتداد. قياساً ببعض جاراتها، كانت «السلطنة» تبدو متأخرة، ومقارنة بأخريات كانت فى وضع أفضل وأكثر ثباتاً ومناعة.. لكن الحساب الختامى يشى بأن عُمان كانت على السكة الصح، فلم تُفرط فى صعود غير محسوب يأخذها إلى حواف الخطر، ولم تتراخَ عن اجتراح تقدُّم واجب لا تستقيم حياة البلدان من دون تحقيقه وتوخى أسبابه.
يحفل واقعنا العربى بالكثير من الملكيات والجمهوريات والإمارات، لكنه لا يضم سوى «سلطنة» واحدة، ولذلك فإن بنية النظام وإدارة الشئون العامة وكذلك الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فى هذا البلد تبدو متفردة. لا تقدم «السلطنة» نموذجاً فريداً خالياً من الأخطاء والعيوب والنقائص، وهى لم تجترح تقدماً مذهلاً يقف العالم أمامه مشدوداً مسلوب الأبصار، لكنها تقدم بياناً عملياً لدولة تتمتع بدرجة من الرشد ملائمة، ومجتمع يحظى بالقدر اللازم من التماسك.
ما الأسرار التى نأت بـ«السلطنة» عن مخاطر الحروب والاستهداف المتبادل، وكيف استطاعت أن تقف آمنة غير مأخوذة بالهلع، فيما تُنصب الصواريخ حولها، وتتقاتل الجيوش، ويتبادل المتصارعون التهديدات بالنيران والغضب؟
وكيف بقيت بعيدة عن التورط فى مستنقع الفتن بروائحه العفنة، وآمنة من موجات غلاء متصاعد ومطرد، ومحافظة على علاقات متوازنة بكافة الأطراف الفاعلة فى محيطها المفخخ بالأخطار وتصارع الإرادات، وقادرة على إقامة ورشة وطنية فعالة لبناء قدرات إنسانها وتعزيز مهاراته، رغم أنها ليست مركزاً مالياً إقليمياً، ولا مقصداً سياحياً مبهراً، ولا مخزناً واسعاً للغاز أو النفط؟
تبدو الإجابة عن هذه التساؤلات صعبة، لكن قد يسهم فى إجلاء الأمور وإيضاحها مقاربة حذقة لأهم عنصر من عناصر البيئة العمانية.. الإنسان العمانى نفسه، حيث يبرهن دوماً على امتلاكه قدراً كبيراً من التحضر والصلابة، وانتمائه الراسخ لحضارته وأمته العربية والإسلامية بشكل لم ينل أبداً من خصوصية فريدة يحرص عادة على تكريسها والإشارة إليها والاحتماء بها. سر أسرار «السلطنة» إنسانها.. وسر هذا الأخير أنه لم يسأل أبداً عن هويته، لأنه يعرفها كما يعرف باطن يده، ولأنه كذلك، فقد أظهر أفضل المناقب مع مواطنيه وأبناء حضارته والآخرين.. أى التسامح والتفهم والرضا.
سياسياً، لا تدّعى السلطنة الديمقراطية، ولا تباهى بمجلسى الدولة والشورى، والانتخابات المحدودة، والنساء اللاتى يشغلن المواقع الوزارية والقيادية، لكنها تمارس نوعاً من الحُكم يمكن تسميته بـ«الإدارة بالتوافق والرضا»، وفق سياسة يعرفها الجميع فى هذه البلاد، وربما يؤمنون بجدواها، ويسمونها «سياسة الخطوة خطوة».
رفضت السلطنة مقاطعة مصر وقت أن قاطعتها الدول العربية جميعها نهاية السبعينات من القرن الماضى، وتحتفظ بعلاقات استراتيجية ببريطانيا والولايات المتحدة فى كل الأوقات، وتربطها علاقات وثيقة بإيران، واستضافت معارضين يمنيين بعد حرب صيف 1994، ورفضت الانضمام إلى دول مقاطعة قطر، كما امتنعت عن المشاركة فى التحالف الذى تقوده السعودية فى اليمن، وهى تمانع فى بعض الخطوات الخليجية التى ترى أنها تتنافى مع مصالحها الوطنية كما تشخصها، وتقاطع بعض الاجتماعات العربية المهمة، أو تخفض تمثيلها فى بعض القمم، أو تقرر فجأة أن تلعب دوراً مؤثراً ورئيساً لحل أزمة عربية ما.
تفعل السلطنة كل هذا، وتتخذ كل تلك القرارات، وتنتهج هذه السياسات من دون أن تُخدّم عليها إعلامياً بالقدر الكافى، ولا تجد نفسها فى معرض تبرير أو تفسير عادة، ولا تتعرض لاتهامات بالغرور والصلف أو الانتهازية والنكوص، وهو أمر لا يجد تفسيراً كافياً سوى فى حال الاتساق التى تجلل ممارساتها كافة. يحلو للساسة العمانيين تبرير هدوء إيقاع الإعلام الوطنى بمحدودية الزخم والصراع فى مجتمعهم، وتفسير محدودية حركة الدبلوماسية الخارجية للدولة بحرصها على التحسب والحذر فى محيط ملتبس وشائك، ورد الخطوات الديمقراطية المتأنية إلى ضرورة أن تسبقها تنمية بشرية أكثر رسوخاً واستدامة، ويعزون الارتفاع النسبى للأسعار مقارنة بالدخل إلى تأثيرات المحيط الغارق فى الرفاهية والفوائض.
تجد النخب السياسية والثقافية العمانية رداً جاهزاً على كل مأخذ يتعلق بافتقاد السلطنة لمجلس نيابى كذلك الذى يشغل الناس ويملأ الدنيا صخباً فى الكويت، أو لتعبير إعلامى دولى يهز أصقاع الأرض كـ«الجزيرة» فى قطر، أو لطفرة عقارية وسياحية وخدمية مهولة كتلك التى تتفاعل فى دبى، أو لدور سياسى فعال فى الإقليم والعالم كذلك الذى تحظى به السعودية.
يرد العمانيون بأنهم لا يشعرون بأنهم فقدوا شيئاً ذا بال، ويراهنون على أن تلك الإشراقات قد تزور السلطنة يوماً، وأنها ربما ستكون أكثر رسوخاً، لأنها ستجد مناخاً أكثر تسامحاً، وبنية اجتماعية غير متطرفة ولا مقسومة، وعوامل نمو قد تكون محدودة لكنها تتمتع بالبقاء، وحكماً قد يفتقد الطموح للقفزات الكبيرة فى الجغرافيا والتاريخ، لكنه حتماً لا تنقصه الشرعية ولا الإنجاز، وأخيراً وليس آخراً.. إنساناً عمانياً قد يعوزه بعض الطموح والهمة، لكنه يتمتع بالكثير من التحضر والصلابة والرضا.
لكن ثمة ما يمكن أن يشكل عاملاً للقلق، إذ ترتبط تلك الإنجازات بنظام سياسى أحادى مغلق، مرتكزه الأساسى شخص السلطان الذى استطاع أن ينهض فى مواجهة التحدى، وأن يؤمّن لبلاده التماسك والسلام والنمو.. فهل حرص على تأمين بنية سياسية وإرساء إجراءات تضمن استمرار المسيرة من بعده؟
جميل جداً أن تحقق الإنجاز لصالح شعبك، والأجمل أن تعمل على تأمين استدامته بعد رحيلك.