حلت أمس الذكرى السابعة لتنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك عن السلطة، بعد تظاهرات حاشدة شملت أنحاء واسعة من البلاد، للاحتجاج على حكمه والمطالبة بإسقاطه.
ففى يوم 11 فبراير من العام 2011، أعلن اللواء عمر سليمان «تخلى مبارك عن الحكم»، لتبيت القطاعات المؤيدة لـ«الثورة» فى مصر، متفائلة وفخورة، على مصطلح «الربيع»، قبل أن تستيقظ بعد شهور قليلة على واقع مغاير بدا كأنه خليط من «شتاء أصولى»، ومستقبل تتخاطفه الفوضى.
لم يكن ما حدث فى مصر آنذاك شأناً يخصها وحدها كما اتضح لاحقاً؛ إذ ضرب زلزال عنيف دولاً عدة فى المنطقة، واستمرت توابعه فى التفاعل، ولم تهدأ لحظة حتى الآن.
فى تلك الآونة من كل عام، سيكون من المحتم أن نستعيد ذكرى اندلاع الانتفاضات العربية، وبموازاة ذلك سنسعى إلى استخلاص الدروس والعبر.
ثمة قواسم مشتركة يمكن أن نجدها فى تلك الانتفاضات، التى اندلعت على التوالى، فى ما يشبه حركة «الدومينو» الشهيرة، ابتداءً من تونس فى 14 يناير، ثم مصر 25 يناير، فاليمن 11 فبراير، ثم ليبيا 17 فبراير، قبل أن تحط رحالها فى سوريا فى 15 مارس من العام 2011.
لقد مرت سبعة أعوام منذ اندلاع الانتفاضات، وهى فترة كافية لدراسة التطورات، وتقييم الأثر، سعياً إلى مقاربة أكثر وعياً لحال الجمهورية العربية فى العقد الثانى من الألفية الثالثة.
ما زالت تونس تكافح لتثبت أن «ثورة» اندلعت بها، وأن لتلك «الثورة» استحقاقات بدأت فى التحقق بتباطؤ وعلى استحياء، لكن الأوضاع فى اليمن وسوريا وليبيا كانت أكثر مأساوية بكل تأكيد، إذ تمخضت الانتفاضات عن سقوط الدول أو تزعزعها، وحروب أهلية، وتدخلات إقليمية ودولية، وأوضاع كارثية، ومئات آلاف القتلى والجرحى، وملايين المشردين والمهاجرين والنازحين.
أما مصر، فيمكن القول إنها عانت الكثير، وتكبدت خسائر ضخمة، وواجهت تحديات هائلة، قبل أن تنكشف الغيوم عن وضع جديد، تجتهد القوى الفاعلة الرئيسة ضمنه لكى تستعيد الأوضاع التى سادت قبل اندلاع الانتفاضة.
ليس هذا فقط، لكن الرئيس السيسى، الذى يدير راهناً معركة واسعة وشرسة ضد الإرهاب، راح يؤكد أن سلطته ستبذل كل ما تملك لكى تمنع تكرار «ما حدث قبل سبع سنوات».
سيفهم البعض من نقاد الرئيس أنه كان يقصد «منع اندلاع الثورة مجدداً»، وسيعتقد آخرون من مؤيديه أنه كان يقصد «منع الفوضى والانفلات الأمنى ووقف عجلة الإنتاج وتحول البلاد إلى مطية للتدخلات الخارجية والعبث (الإخوانى)».
وفى كل الأحوال، فإن البلاد لا تبدو مستعدة لاستعادة أجواء الاحتجاج، رغم كل ما يقال عن «أزمات اقتصادية» أو «اختناق سياسى» أو «خيبة أمل»؛ إذ تكفلت المآلات المأساوية للانتفاضات العربية بتحييد حركة الشارع، واستبعاد خيار «الثورة»، والاكتفاء بالتعويل على الإصلاح.
لا يمكننا تجاهل وجود مسوغات موضوعية لاندلاع الاحتجاجات الضخمة فى دول «الدومينو» السابق ذكرها، ولا يمكننا تجاهل أنها جميعها تستحق إدارات أكثر رشداً مما توافر لها على مدى نصف القرن الذى سبق اندلاع الانتفاضات، لكننا فى المقابل ندرك أن تلك الاحتجاجات كانت البيئة التى ترعرع فيها لاحقاً ما يمكن وصفه بـ«التراجع والدمار والفوضى» فى معظم تلك الدول.
لقد ورد مصطلح «الربيع العربى» إلينا من الغرب، ومع ذلك فقد استخدمه كثيرون بيننا بحسن نية، باعتباره «مقدمات لتغيير سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى، سيأخذ تلك المنطقة التى تخاصم الحداثة وتعاند التاريخ، إلى مصاف الدول المتقدمة، عبر عمليات انتقال ديمقراطى حان وقتها».
ما زال بيننا من يستخدم هذا المصطلح (الربيع العربى) حتى وقتنا هذا، لكن ما جرى فى تلك البلدان التى شهدت الانتفاضات لا يمكن أن يصب أبداً فى خانة «الربيع»، باستثناء نادر يتعلق بتونس، وهو استثناء ما زالت تحيط به الشكوك على أى حال.
أوصلت الانتفاضة التى اندلعت فى يناير 2011، تنظيم «الإخوان» إلى الحكم فى مصر؛ وهو تنظيم عقائدى، ثبت لاحقاً تورطه فى أعمال الإرهاب والعنف، كما اتضح أنه اتخذ موقفاً معانداً للمطالب الوطنية التى نادت بها الانتفاضة، وعبرت عنها فى الشعار الشهير: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية».
لم تمر تونس بالمسار المعقد ذاته الذى اتخذته مصر، ومع ذلك، فقد أفضت انتفاضتها إلى دستور وبرلمان ورئيس، كان أحد وزراء عهدى بورقيبة وبن على. أما اليمن، فقد قادته الانتفاضة، والاقتتال على الحكم، والتمرد الحوثى، والتدخلات الإقليمية الحادة، إلى أن يصبح أشلاء وطن وبقايا دولة.
ليست تلك أسوأ الأزمات التى شهدها العالم العربى فى أعقاب الانتفاضات؛ إذ تبقى سوريا أكبر تجسيد لانهيار الدولة، وتفتت المجتمع، والانخراط فى الاقتتال الأهلى، والارتهان للإرادات الإقليمية والدولية.
وفضلاً عن وجود نحو 3.3 مليون لاجئ ونازح من هذا البلد، فإن الإرهاب وتزعزع سلطة الدولة أديا إلى تكريس ارتهان الحكومة لسيطرة دول أخرى.
لا تبرر تلك الحقائق استخدام تعبير «الربيع العربى» بأى صورة من الصور، وحتى الدفع بأن «الثورات تأخذ أوقاتاً كبيرة»، و«تتعرض لمصاعب ومشكلات»، لا يمكن أن يصمد أمام عمق المأساة التى تعيشها تلك البلدان.
يقودنا هذا إلى محاولة الاستفسار عن الأسباب التى حرفت تلك الانتفاضات عن اتجاهاتها المرجوة، إلى حد أن قطاعات كبيرة من المواطنين العرب أضحت أكثر اعتقاداً فى أن تلك الانتفاضات كانت «مؤامرات تخريبية مدبرة» بهدف «إسقاط الدول العربية» التى اندلعت فيها.
إن الانتفاضات أو الثورات ليست مطلباً أو هدفاً فى حد ذاتها لأى دولة أو مجتمع؛ إذ إن الجمهور ينتفض أو يثور حين يكون التغيير ضرورة، وحين يكون الطريق إليه مسدوداً.
ويمكن القول إن هذين العاملين توافرا بشكل أو بآخر فى معظم الدول التى شهدت التغيرات الحادة، لكن تحول تلك الانتفاضات أو الثورات إلى عملية انتقال ديمقراطى، تأخذ المجتمعات التى اندلعت فيها إلى أوضاع أفضل، هو مسألة أكثر صعوبة وتعقيداً. يكشف استعراض تجارب الانتقال الديمقراطى عبر الثورات والانتفاضات، خصوصاً تلك التجارب التى وقعت فى شرق أوروبا، عن الكثير من العوامل التى يجب أن تتوافر حتى تنجح عملية الانتقال الديمقراطى.
من تلك العوامل أن يكون هناك طلب فعلى لدى قطاعات فاعلة فى الجمهور على الديمقراطية، بما تستلزمه من موارد وقيم أساسية؛ مثل المساواة، وعدم التمييز بين المواطنين، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة حرية الإعلام وحرية التعبير عن الرأى.
إن هذه القيم الأساسية تتناقض بطبيعة الحال مع الارتكاز الدينى الذى تستخدمه الجماعات الإسلاموية، كما تتناقض أيضاً مع الآليات الشمولية التى تحكم التفاعل السياسى فى أكثر من دولة.
ومن بين تلك العوامل أيضاً أن يمتلك المجتمع الراغب فى تحقيق الانتقال الديمقراطى بنية سياسية أساسية، تنطوى على حياة حزبية صالحة للبناء عليها، أو تنظيمات مجتمع مدنى قوية، ونقابات مسئولة وفعالة، وهو ما يبدو حتى هذه اللحظة أمراً بعيد المنال.