عرف العالم كلمة «الديمقراطية» اسماً ومعنى وممارسة فى القرن الخامس قبل الميلاد على يد إخواننا الإغريق، والكلمة نفسها ذات أصل يونانى وتتكون من مقطعين أحدهما «ديموس»، أى الشعب، والثانى «كراتوس»، أى حكم أو سلطة، ومعناها الحرفى «حكم أو سلطة الشعب».
هذه البدعة اليونانية أو الأثينية لم تصل إلى مصر فى ذلك الحين رغم العلاقات الثقافية والتجارية والعسكرية التى جمعت البلدين منذ عهد الملك بسماتيك ثم فى عهد الإسكندر المقدونى ثم البطالمة، ورغم المدن الإغريقية التى شيدها الإسكندر والبطالمة فى مصر وكانت تدار على غرار نظيراتها فى اليونان الأصلية حيث تضم مجالس ديمقراطية منتخبة تشارك فى كل شئون المدينة.
عاش المصريون فى كنف الفراعنة نحو خمسين قرناً دون أدنى قدر من الديمقراطية، ثم عاشوا فى كنف الاستعمار الفارسى والإغريقى والرومانى والعربى والمملوكى والعثمانى والبريطانى نحو خمسة وعشرين قرناً دون أدنى قدر من الديمقراطية، ولم تشهد البلاد أى إرهاصات ديمقراطية خلال هذا العمر الطويل سوى تأسيس مجلس شورى الأعيان (1866) فى عهد الخديو إسماعيل، وكان هذا المجلس منحة من الحاكم وليس مطلباً شعبياً، وكانت سلطاته محدودة للغاية، وكان قاصراً بالطبع على الطبقة العليا التى صنعتها أسرة محمد على. تطورت الأمور بعد ذلك، إلى حد ما، إلى أن شهدت مصر نوعاً من الحياة السياسية عقب ثورة 1919، وظهر حزب الوفد، وظهرت الانتخابات، وصار لدينا هامش ديمقراطى يسمح بتداول نسبى للسلطة، ولكن هذا الهامش كان شكلياً لأن الكلمة العليا فى البلاد ظلت فى أيدى المندوب السامى البريطانى وجلالة الملك، وكلما نجح الوفد فى الوصول للسلطة كانت القوى الحقيقية قادرة على الإطاحة به وإعادة الأمور إلى نصابها فى صالح الاستعمار والسراى.
وحين حصلت مصر على الاستقلال وأطاحت بأسرة محمد على بعد ثورة يوليو 52 لم تتوصل البلاد أيضاً إلى الديمقراطية لأن عبدالناصر كان يرغب أولاً فى ضم الفقراء والمعدمين إلى الشعب المصرى ومنحهم حق الحياة الكريمة، ولذلك فضل الديمقراطية الاجتماعية على نظيرتها السياسية، وظلت مصر طوال عهد عبدالناصر محرومة تماماً من الأحزاب ومن تداول السلطة ومن المشاركة الشعبية الحقيقية فى إدارة الشأن السياسى فى البلاد.
عاشت مصر بعد ذلك مرحلة «الديمقراطية ذات الأنياب» فى عهد الزعيم المؤمن محمد أنور السادات الذى اخترع شيئاً عجيباً اسمه «المنابر»، ثم طور هذه المنابر إلى أحزاب أحدها حزب السلطة والثانى حزب اليمين والثالث حزب اليسار بالإضافة إلى حزب الوفد الجديد، ثم قرر الزعيم المؤمن ضرب حزب اليسار بحزب يسارى تايوانى أطلق عليه اسم «حزب العمل الاشتراكى» وإمعاناً فى العبط والعبثية قرر الزعيم المذكور تحرير استمارة عضوية باسم فخامته فى هذا الحزب التايوانى، كما قرر أيضاً إعارة عدد من أعضاء مجلس الشعب الحكوميين إلى ذلك الحزب حتى يصير متوافقاً مع القانون والدستور!!
رغم هذا النوع من الديمقراطية العبثية، تمكنت القوى السياسية الحقيقية من إضفاء قدر كبير من الحرارة على الأداء الحزبى خاصة من جانب اليسار الراديكالى والناصرى فضلاً عن حزب الوفد، وواجه النظام هذا الأداء الحزبى غير المتوقع بسلاح تزوير الانتخابات فى عهد الزعيمين المؤمن والمزمن، وأسفر التزوير المتوالى لكل الانتخابات النيابية إلى حالة من اليأس والركود فى كل أحزاب المعارضة مما أدى فى النهاية إلى شلل ديمقراطى أفضى إلى يأس الناس من الإصلاح ومن المشاركة ومن أى عائد إيجابى للديمقراطية الزائفة المتاحة فى البلاد، وهو الأمر الذى أنتج أحداث يناير 2011، وأنتج معها سيطرة عصابة الإخوان على المشهد السياسى آنذاك لأنها التنظيم الوحيد الذى لم تسمح له سلطات السادات ومبارك بتأسيس حزب سياسى ينضم إلى مسخرة الأحزاب حبيسة النظامين.
كان السادات حين أسس الأحزاب السياسية يرى أن هذه الأحزاب جزء من النظام، وأنه هو نفسه رئيس كل شىء وكبير العائلة المصرية بأحزابها وأطيافها ومفكريها وساستها ونسائها وأطفالها، ومن هنا لم يتصور أن تمارس هذه الأحزاب معارضة حقيقية ضد النظام، ولم يتصور أن تتطلع هذه الأحزاب إلى تداول السلطة أو إسقاط النظام، ولم يؤمن لحظة واحدة بحق الشعب فى ديمقراطية حقيقية بعيداً عن حكاية كبير العيلة أو شيخ القبيلة! والواقع أن السادات وبعده مبارك لم يكونا مخطئين تماماً فى قمع أو تحجيم المعارضة، ففى صفوف حزب السلطة كان النفاق شديداً للغاية وكانت المصالح الشخصية تسيطر على الجميع وكان أعضاء هذا الكيان البائس يكاد بعضهم يعبد الرئيس والنظام من دون الله، هذا إلى جانب البؤس الشديد فى ثقافة الديمقراطية والوعى السياسى والطبقى لدى الغالبية العظمى من المصريين، وكان مجرد تأسيس حزب على رأسه حاكم البلاد يمثل عائقاً رئيسياً يطيح بأى محاولات جادة لاستحداث نمط ديمقراطى فعلى فى البلاد. وإذا أضفنا إلى ذلك السياسات العشوائية للسادات ومبارك التى أفسدت التعليم وأشاعت الأنانية والانتهازية والفساد فى كل ربوع البلاد، فإننا لن نندهش كثيراً أو قليلاً من القضاء التام على الديمقراطية الهامشية عند الرمق الأخير من نظام حسنى مبارك.
انفجر الناس فى يناير 2011 ضد الكذب والتلفيق والتزوير والركود السياسى والفساد المنهجى وكل كوارث الزعيمين المؤمن والمزمن، ولا يعنينا فى هذا السياق ما إذا كانت أحداث يناير عفوية أو مؤامرة كونية إخوانية، المهم أن الوضع آنذاك كان يستحق الانفجار. ونال المصريون ما سعوا إليه وذهب مبارك ونظامه وصار الثوار فى مقدمة المشهد، ولكننا -كأحداث فيلم الإرهاب والكباب- فشلنا تماماً فى تحديد الخطوة المقبلة، وأسفرت العشوائية الثورية عن ركوب عصابة الإخوان وبرطعة عصابات البلطجة وتهيئة البلاد لحرب أهلية وشيكة. وتصاعدت الأمور أكثر وأكثر إلى أن تمكن الجيش من الإطاحة بالإخوان ثم تولى السيسى رئاسة الدولة وتمكن من إعادة الاستقرار والاتجاه إلى بناء الدولة من جديد.
هتف المصريون بكل طوائفهم للإنجاز التاريخى الذى حققه عبدالفتاح السيسى حين تمكن من إزاحة الإخوان وأنقذ البلاد من حرب أهلية وكوارث لا حدود لها، ولكن الشعبية الجارفة التى تحققت للسيسى بدأت فى التراجع حين ارتفعت أسعار كل شىء فى البلاد عقب تعويم الجنيه المصرى، واستثمرت تيارات عديدة هذا التراجع فى تدشين حملات من الانتقاد اللاموضوعى حيناً والبذىء أحياناً ضد النظام، الفقراء يعترضون على ارتفاع الأسعار، والمعتدلون يعترضون على أولويات الإصلاح، والراديكاليون ومعهم المرتزقة يعترضون على إهدار الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكان السيسى أثناء حضوره إحدى جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى إحدى سنوات حكمه قد تحدث فى قصة الديمقراطية وحقوق الإنسان بموضوعية ووضوح قائلاً لمنتقديه فى الدول الغربية إنه على استعداد تام لتطبيق الحد الأقصى من حقوق الإنسان حين يكون فى مصر شعب بمواصفات شعوب دول غرب أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو سائر البلدان المتقدمة.
ولو كان السيسى قد وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان على رأس أولوياته لكانت مصر الآن مسرحاً لمليونيات أسبوعية أو يومية، ولعادت عصابات الصيع والبلطجية والمرتزقة لحصار الوزارات والمنشآت وتدمير كل ما تصل إليه من مؤسسات الدولة أو ممتلكات القطاع الخاص، وربما تمكنت عصابات الإسلام السياسى من احتلال بعض المحافظات أو القرى كما حدث فى أربع من الدول العربية المنكوبة بالثورات العشوائية.
والآن، وفى مناسبة الانتخابات الرئاسية، يتباكى إخواننا الحمقى والمرتزقة، فضلاً عن فلول عصابات الإسلام السياسى، على حال مصر التى حرمها السيسى من الديمقراطية وأطاح بفرص كل منافسيه فى الوصول إلى منصب الرئاسة، وكأن الشعب المصرى الكريم كان ينتظر موعداً مع القدر حال وصول الزعماء خالد على أو عنان أو شفيق إلى قصر الاتحادية!!
فى أحد أفلام السيدة عبلة كامل، استدعت أحد رجال الشرطة وقالت له إن شخصاً يتحرش بها وطلبت تحرير محضر «تحرش بأنثى»، ألقى الشرطى القبض على الشخص ثم قال لعبلة كامل: «ده المتحرش.. فين الأنثى؟»!!
ومن حق السيسى هذه الأيام أن يوجه نفس السؤال بصيغة أخرى لفريق مقاطعة الانتخابات: «حضراتكم زعلانين ليه.. متى كانت بلادكم دولة ديمقراطية؟، وماذا فعلتم بالديمقراطية بعد نجاح ثورتكم فى الإطاحة بحسنى مبارك؟، وأين -لا مؤاخذة- أحزابكم ومجتمعكم المدنى وزعماؤكم الذين تزعمون؟»!