من أهم ما تكلف به مؤسسات الدولة أن تحمى مواردها الاقتصادية ونمط حياتها وحدود الإقليم. الموارد الاقتصادية هنا ليست مقصورة فقط على ما هو موجود فى أرض الإقليم وحسب، هناك أيضاً الحدود البحرية للدولة، وما يعرف بالمنطقة الاقتصادية الخالصة التى تمتد 200 كم، ثم الجرف الإقليمى للدولة، الذى قد يمتد أكثر من المساحة المحددة للمنطقة الاقتصادية، ثم أعالى البحار، وفقاً لما نصت عليه الاتفاقية العامة للبحار 1982، والمُصدق عليها فى نوفمبر 1994، ومصر من الدول المُصدقة عليها والملتزمة بمبادئها، وهى الاتفاقية الأساس الذى بُنيت عليه اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع كل من قبرص واليونان فى العام 2015. وللدولة الحق فى استغلال كامل الموارد الطبيعية الحية أو غير الحية فى تلك المناطق البحرية التى تعتمد وفقاً لاتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع الدول الأخرى، وتودع لدى الأمم المتحدة، وتصبح مقبولة عالمياً ومحل احترام من كافة الدول.
حين أكدت مصر على حقها السيادى فى حماية حقل ظُهر من أى تهديدات تركية أو غير تركية، وكذلك حماية كافة الاكتشافات الأخرى فى المنطقة البحرية التى حددتها الاتفاقية مع كل من قبرص واليونان، لم تكن تفعل أكثر من تأكيد مبدأ متعارف عليه دولياًً ومحمى بالمعاهدة الدولية للبحار. هذا الأمر مجرد مثل لما باتت تمثله منطقة شرق المتوسط من احتمالات اندلاع صراعات كبرى بخصوص الموارد الطبيعية الموجودة فى المنطقة، وأبرزها احتياطات الغاز المؤكدة وفقاًً للمسوح التى قامت بها هيئة المسح الجيولوجى الأمريكية، والتى أعلنت فى مارس 2010 وجود احتياطات هائلة من الغاز الطبيعى بمنطقة شرق المتوسط تصل لـ122 تريليون قدم مكعب. وهو الإعلان الذى دفع كلاًً من إسرائيل وقبرص واليونان إلى توقيع اتفاقيات تحدد لكل منها حدودها البحرية. التحرش التركى بحقوق مصر الاقتصادية فى منطقتها الاقتصادية وجرفها القارى ليس هو التحرش الوحيد، هناك تحرشات تركية مع كل من اليونان وقبرص، اللتين لم توقعا بعد اتفاقيات حدود بحرية مع أنقرة، وثمة أسباب عديدة تحول دون ذلك أبرزها احتلال تركيا منذ 1974 شمال قبرص، وإعلانها دولة فيما يقرب من 35% من مساحة الجزيرة، لا يعترف بها أحد، على عكس الأمر بالنسبة لقبرص اليونانية التى يعترف بها العالم، ولها حقوق سيادية وفق القانون الدولى، ناهيك عن الميراث التاريخى بين تركيا واليونان، والملىء بالكثير من المآسى والذكريات السوداء، وأخيراً منعت البحرية التركية سفينة تابعة لشركة إينى الإيطالية من البحث فى المنطقة الاقتصادية التابعة لقبرص. التحرش الثانى الأبرز يتمثل فى السلوك الاستفزازى الاستعمارى لإسرائيل ضد لبنان وحقوقه المشروعة فى المنطقة الاقتصادية الخالصة له والمحددة وفقاًً لاتفاق مع قبرص، وهو الأساس الذى دفع لبنان للمسارعة فى توقيع اتفاقيات مع ثلاث شركات كبرى للبحث واكتشاف الغاز فيما يخصه بحرياًً، هنا تعترض إسرائيل بعنجهية استعمارية، وتعمل على تعطيله أو على الأقل أن تحصل على عائدات منه غصباًً، إسرائيل أيضاً منعت من قبل إحدى الشركات البريطانية من تحويل اكتشافها فى أحد الحقول المواجهة لقطاع غزة إلى منصة إنتاج، ما يجعل الأمر مؤجلاًً إلى أجل غير مسمى. هذه التحرشات التركية لمصر وقبرص، والإسرائيلية للبنان قابلة نظرياًً وعملياًً للتطور إلى أزمات وربما مواجهات عسكرية، والرد عليها لن يكون أقل من تحركات محكمة ومدروسة سياسياًً وقانونياًً وعسكرياًً، القوة العسكرية هنا باتت عاملاًً رئيسياًً، واللقطات السريعة التى نشرها المتحدث الرسمى للقوات المسلحة فى بيان له حول بعض عمليات البحرية المصرية لحماية الاتجاهات الاستراتيجية للدولة المصرية والموارد الاقتصادية وتحديداًً حقل ظُهر، تثبت أن مصر تأخذ الأمر فى مجال الجد وليس الهزل. لبنان بدوره ورغم انقسامات نخبته السياسية إلا أنهم اجتمعوا على حماية حقوق لبنان الاقتصادية فى اكتشاف الغاز فيما يعرف بالبلوك 9، الذى يدخل فى صميم السيادة البحرية للبنان، بل تم التلويح رسمياً بمواجهة عسكرية إن لزم الأمر، ما يجسد أهمية تلك الموارد الاقتصادية والحاجة إلى حمايتها بالقوة والقانون معاًً.
الحديث عن اكتشافات الغاز فى شرق المتوسط وغزارة الاحتياطى فيها ارتبط بسنوات الاضطراب التى مرت بها عدة دول عربية، والتى ما زالت مستمرة كما فى سوريا وليبيا واليمن. بالنسبة للحالة السورية ومنذ تطور الصراع فيها منتصف العام 2011 وحتى الآن ظهرت تحليلات تفسر الدور العدائى التخريبى الذى قامت به قطر تجاه الدولة السورية بمشروع لمد الغاز القطرى إلى أوروبا عبر الأراضى السورية إلى تركيا ومن ثم إلى بلدان أوروبا، إما من خلال خط جديد، أو ربط هذا الخط بخط آخر يعرف بخط نابكو يربط بين أذربيجان وتركيا ثم دول أوروبا، وهو الخط المؤجل تنفيذه لأسباب اقتصادية حيث تكلفته تفوق الـ8 مليارات دولار، وأسباب تتعلق بالصراع فى سوريا. هذه الخطوط حال إنشائها ستؤدى إلى تغيير كبير وشامل فى السوق العالمى للنفط والغاز، ومن شأنها أن تجعل أوروبا فى حال اعتماد يفوق 50% على الغاز المقبل من قطر، وبالتالى تخفف من اعتمادها على الغاز المقبل من روسيا عبر أوكرانيا.
هناك تحليلات أخرى أنكرت مثل هذه التفسيرات واعتبرت أنها غير واقعية، ولكن يظل التساؤل قائماًً: لماذا كل هذا الإصرار على تدمير الدولة السورية وفرض نظام جديد فيها يكون مجرد ألعوبة فى يد تركيا ومن ورائها قطر؟ وأيضاً لماذا دخلت روسيا فى عمق الأزمة السورية منذ نوفمبر 2015، وبات لها حضور عسكرى كبير وفق اتفاقيات رسمية مع الحكومة السورية؟ الاعتبارات الاستراتيجية ورغم أهميتها لا تلغى إطلاقاًً الاعتبارات الاقتصادية وموارد النفط والغاز. وهو ما أشارت إليه الخارجية الروسية حين اتهمت واشنطن بنواياها فى السيطرة على الموارد السورية بعد أن قصفت الطائرات الأمريكية تجمعات عسكرية حليفة للجيش السورى فى دير الزور. اتهام يكشف المكنون من الأمور. فسوريا أيضاً لها حقوق اقتصادية بحرية فى المنطقة التى تأكد وجود احتياطات كبيرة من الغاز فيها.
المشكلة الأكبر هنا أن مثل هذه الاكتشافات تتطلب هدوءاً واستقراراً فى علاقات الدول المشاطئة لشرق البحر المتوسط، فالاستثمارات فيها هائلة، والعوائد منها تتطلب زمناًً طويلاًً، والتعرض لعمليات عسكرية أو التهديد بها من قبَل دولة استعمارية أو أخرى لديها ميول إمبراطورية مَرضية يهددها بالخطر، الحل الوحيد هو الردع بقوة محسوبة، إلى أن تلتزم الأطراف جميعها بالحكمة والقانون.