مقطع فيديو مدته أقل من عشر ثوان.. طفلة صغيرة تودّع والدها في المطار باكية، وتقول له بصوت طفولي بريء ممزوج بالبكاء: «قول للشغل بنتي الصغيرة زعلانة».
لم يكن مشهد مبهجًا على الإطلاق، لم أستطع النظر إليه من منظور براءة الأطفال وخفة ظلهم التلقائية، بل ترك داخلي –وأتوقع داخل كل من شاهده- أثرًا عميقًا من الحزن والضيق، وذكرّنا بكل من فارقنا مضطرًا بحثًا عن الرزق والمال وتجاوز أعباء الحياة.
رغم كل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تقف عائقًا أمام الزواج في مصر، إلا أن العائق الأكبر من وجهة نظري هو «التربية»، فكم من هؤلاء المقبلين والمقبلات على الزواج مهيئًا ومستعدًا لتربية طفل؟ وكم منهم أيضًا يتفهم معنى ومغزى كلمة تربية؟ هل التربية تعني أن يكون الطفل بارعًا في دراسته ويحجز مقعدًا بين أوائل المدرسة؟ أم يعتاد على منصّات التكريم الرياضية؟ أم يتقن أكثر من لغة منذ طفولته حتى يتناسى الحديث العربية؟
البعض يتوقع أن التربية تكمن في توفير تعليم جيد للابن؟ ويسعى الأبوان من أجل إلحاق طفلهم بالمدارس الإنترناشونال ذات المصروفات الباهظة، ويدور الأب في فلك الحياة من أجل سداد مصروفات المدرسة ثم الكلية، فهل هذا هو الدور الجوهري للتربية؟
التربية –من وجهة نظري- هي مشروع الحياة الذي سيبقى، وفرصة أخرى لتصحيح أخطاء حياة سابقة، وشراكة مميزة كللها الله عزّ وجلّ بحب إلهي لا يعرف الكُره له طريق، نعم هي شراكة بين الأبوين وابنهم أو ابنتهم؛ من أجل المُضي قدمًا في طريق الحياة، شراكة لا يجب أن تعرف الفشل أو الانفصال أو البحث عن شريك آخر؛ لذلك يجب الاستعداد جيدًا لتلك الشراكة قبل الزواج.
يواجهنا الآن أزمة كبيرة في نقص المعلومات، فكثير من الآباء والأمهات الجُدد لا يستطيعون التعامل مع أبنائهم في مرحلة الطفولة، تلك المرحلة التي لا يستطيع الطفل فيها التعبير عن حاجته، فربما يكون طفلًا حسيًّا يتأثر بالتلامس والعِناق والتعبير الجسدي، وربما يكون طفلًا آخر حركيًا أي يمتاز بكثرة التحرك والشقاوة والنشاط الزائد، كما أن كل طفل له أسلوب التعلم الملائم له، فالبعض يكون تعلمه بصريًا عن طريق رؤية الأشياء مثل الكتب المصورة، ورؤية الكلمات، ومشاهدة الأفلام، أو أى شىء يشد انتباه الطفل بصريًا، بينما البعض ينجذب بكل ما يتعلق باللغة والأصوات، حيث يتعلمون اللغات بسرعة وتظهر عليهم البلاغة من سن صغيرة، فهؤلاء الأطفال أداؤهم جيد فى المدرسة لأنهم يسمعون ثم يرددون ما سمعوه، والبعض يكون حركيًا يسيرون خلف المشاهدة والاستماع، يفضل هؤلاء عمل الشيء بأنفسهم ليتعلموه، هؤلاء يتميزون فى التعليم العملي عن التعليم النظري.
الخلاصة أنه لا يوجد طفل من نوع واحد بشكل حصري، وعلى الأبوين معرفة أن ميول الطفل قد تتغير وتتطور بمرور الوقت.
كما أن مرحلة المراهقة التي تتسم بتحولات سلوكية وبيولوجية وسيكولوجية عديدة للابن والابنة، لابد أن تكون مصحوبة أيضًا بتحولات فكرية لدى الآباء والأمهات من أجل احتواء أبنائهم ومعاونتهم على تجاوز هذه المرحلة بأكبر قدر من الخبرات الجيدة التي تعدّهم لمستقبل باهر وحياة عملية أخرى.
وللأسف أحيانًا يتعامل الأبوان مع مراهقة أبنائهما بأسلوب مراهق أيضًا، فمن الذي منح الأب أو الأم حق صفع الأبناء على وجوههم؟ من الذي رسّخ داخلهم أن سياسة الضرب قد تكون مُجدية في التربية؟ كيف لا يسيطر الأب على انفعالاته أمام مشكلة ابنه المراهق؟ مهما كانت فداحة الأزمة أو خطورتها هل السبّ أو الصفع أو الضرب من المفترض أن تكون سُبل الحل؟ هل أغلق الأطباء النفسيين والإخصائيين التربويين أبوابهم أمام المجتمع؟ وهل فشلت كل مساعِ الحل وأدوات النقاش ولم يتبق سوى النهر والضرب وبقية أساليب الإهانة في هذا الثوب المتخبط والجاهل عن التعامل؟!
استمعت مرة لمشكلة أحد الأصدقاء، كان يقول إنه في المرحلة الثانوية تأخر عن المنزل فما كان على والده سوى أن يطرده من المنزل تحت شعار: «البيت اللي متلتزمش بمواعيده متقعدش فيه»، ويكمل الصديق حكايته: «رفضت أروح لأي حد من قرايبي، وفضلت ألف في الشوارع، وأقعد على الأرصفة، ومستني الصبح بأي شكل وكأن المشكلة هتتحل لما النهار يطلع، وفي الوقت ده قابلت واحد صاحبي من العيال الفاقدة، وكان رايح يسهر مع صحابه اللي في كلية، وعرض عليا أروح معاه ويعرفني على صاحبي اللي ممكن يخليني أبات عنده».
تصرف الأب الطائش كاد أن يكون سببًا في أن يتحول الابن إلى «فاقد» هو الآخر، فالإنسان بطبعه متطلع لما ينقصه فإذا نقصه الراحة داخل منزله؛ حتمًا سيبحث عنها في أي مجتمع آخر، ويقل انتمائه لمنزله وبالتبعية لأسرته تدريجيًا، حتى يصبح أشبّه بنزيل داخل فندق، ويتحول الأب والأم من كونهما أعمدة رئيسية للحياة إلى مجرد مصادر تمويل مؤقتة حتى يستيطع الابن –آنذاك- البحث عن مصادر جديدة للتمويل، والله أعلم هل ستكون مشروعة أم لا.
الأب الذي قرر أن يتزوج وينجب طفلا، عليه معرفة أن هذا الطفل سيكبر يومًا ما ويصبح مراهقًا جامحًا للتجربة والخطيئة، ولا يصح بأي منطق أو أسلوب أن يتخلى الأب عن مسؤوليته تجاه ابنه ويتخذ أساليب عقاب مهينة غير إنسانية مثل الصفع أو السب أو الطرد من المنزل، هذا التنصل من المسؤولية لا يليق ببناء أسرة تكون نواة لمجتمع إيجابي.
للأسف إنجاب الأطفال هذه الأيام تحوّل من مسؤولية تعمير الكون وتنشئة الطفل، إلى مرحلة يمر بها الشاب بعد أن يجمع قرشين ويستيطع الزواج، ولكنه يجهل كل أساليب التربية، ولا يعلم عنها شيئًا سوى ضرورة توفير الأموال لتلبية مطالب الطفل وأمه.
للأسف أيضًا تحول رب الأسرة إلى ماكينة ATM، إما يسافر للخارج ويعود إلى منزله شهر كل عام، أو يربط نفسه بأكثر من وظيفة أو يتمسك بالـOver Time؛ حتى يستطيع توفير أكبر قدر من الأموال لأسرته، وتناسى دوره المعنوي والتربوي تدريجيًا.
لكل رجل وكل سيدة، إذا أردتم بناء أسرة سوية فعليكم بالآتي:
- تحدثوا مع أبنائكم باستمرار ولا تنعزلوا عن مشكلاتهم مهما كانت تافهة من وجهة نظركم.
- تجنبوا شعار: «هم لسه صغيرين»؛ بل على العكس رسخوا داخلهم شعور المسؤولية وحاولوا إشراكهم في إدارة شؤون المنزل.
- علموا أولادكم التحدث بأدب والاختلاف، فلا تفرضوا شخصياتكم وطموحاتكم وآراءكم عليهم، فهؤلاء أناس جدد يطمحون إلى دنيا جديدة لا تحرموهم منها.
- إياكم والإهانة في التربية.. لا للضرب أو السب أو المقارنة الهدّامة.
- لا تقتحموا خصوصية أبناءكم، والرقابة الحكيمة لا تعني اختراق الخصوصية والتنصت وما شابه، فإذا كنتما كأب وأم ناجحين بالشكل الكافي حتمًا ستكونا أول من خيارات ابنكم/ابنتكم للتحدث.
- احضنوهم دائمًا، فكثير من العواطف لا تعبر عنها الكلمات.
- لا تزدروا طموحهم مهما كان صغيرًا أو غير ملائمًا لوجهة نظركم.
- قولوا لهم دائمًا إنكم تحبوهم.. فالأبناء أحيانًا يصبحون على يقين من كرهكم لهم.
- شاركوا الأبناء اهتمامتهم مثل لعب البلاي ستيشن، أو التنزه في النادي، أو دخول السينما، وكل هذا بغرض المشاركة لا التحكم والمراقبة.
- ارتقوا بأذواق أبنائكم فاصطحبوهم إلى حفلات الأوبرا، وعلموهم الباليه والموسيقى والفنون بشكل عام.
- رسّخوا لسياسة الحوار في المنزل، واجعلوا بيتكم أشبه بالبرلمان الصغير واستقبلوا نقدهم بمنتهى المحبة والرضا والامتنان.
الآباء والأمهات يؤدون الدور الأعظم والأكثر قدسية في الحياة، ومعلق في رقابهم مسؤولية تقديم ابن صالح/ابنة صالحة للمجتمع، وهذا يتطلب في المقام الأول أن يحظى الأبناء بالقدر الكافِ من الرعاية والتقدير والحب واللهو، كما يجب أن يحظوا بحقهم في الخطأ والتجربة والتعلم.