«السيسى» عين رئيساً جديداً لأركان الجيش 28 أكتوبر 2017، كلفه بعد شهر باستعادة الأمن والاستقرار فى سيناء خلال ثلاثة أشهر، بالاستعانة بالشرطة، وباستخدام القوة «الغاشمة»، أى «الشاملة».. «سيناء 2018» بدأت 9 فبراير، بعد ثلاثة أسابيع من تغيير رئيس المخابرات العامة، كل الشواهد تؤكد أننا لسنا بصدد مواجهة بضع مئات من الإرهابيين بسيناء، وإنما عملية تعبئة شاملة للدولة، والتدريب على الفتح الاستراتيجى الشامل لأول مرة منذ 1973، استعداداً لخوض حرب بات قرع طبولها يصم الآذان.. مقالى يتناول «ساحة الحرب، الأسباب والمبررات»، تمهيداً لرصد عمليات «التحضير الميدانى».. وبداية لا تقلقوا، فبشائر النصر فى الآفاق.. فقط، انتبهوا جيداً.
إسرائيل أول منتج لغاز المتوسط، وأول من سعى لفتح أسواق تصديره، كان أمامها ثلاثة بدائل للاختيار.. الأول: مد خط أنابيب «إيست ميد» لنقل الغاز من حقول إنتاجه إلى قبرص، يتجه شمالاً تحت البحر إلى تركيا، ليصب فى شبكة الأنابيب التى تغذى السوق الأوروبية، أهمية هذا البديل ترجع إلى أن تركيا دولة استهلاك عالٍ للغاز، روسيا تمدها بـ55% من احتياجاتها، لكنها تسعى لتنويع مصادرها، المسافة بينها وبين الحقول قصيرة، والبنية الأساسية للتصدير لأوروبا جاهزة، وبالتالى فالتكلفة معقولة.. «نتنياهو» سارع بالاعتذار لـ«أردوغان» عن حادث مرمرة، ودفع تعويضات لعائلات الشهداء، ليستأنف العلاقات السياسية، وتركيا رحبت بربط إسرائيل بمصالح مشتركة ضماناً لوقف دعمها للأكراد.. قبرص لم تتحمس لتصدير الغاز الإسرائيلى عبر أراضيها لتركيا، لأنها تريد تصدير غاز حقولها، وهو ما لن يتم عبر تركيا، نظراً لعداوتهما التاريخية.. «مركز أورشليم لدراسات المجتمع والدولة»، أحد أوثق مراكز الأبحاث الإسرائيلية ارتباطاً بدوائر صنع القرار، أجرى «تقدير موقف»، بمناسبة اكتشافات الغاز بمصر 2015، أكد فيه أولوية الشراكة الاستراتيجية لإسرائيل مع مصر وقبرص واليونان، فى مواجهة تركيا التى وصفها بـ«العدو المشترك»، موقع «oil price»، المتخصص فى شئون الطاقة، حذر من أن تعاون إسرائيل مع تركيا سيدمر فرص تعاونها مع قبرص واليونان ومصر، ويهدد الاستقرار بالمنطقة.. رغم ذلك فضل «نتنياهو» الاختيار الأسوأ، حتى تراجع بعد الأزمة الأخيرة مع تركيا المتعلقة بالقدس.
البديل الثانى مد الخط الإسرائيلى إلى جنوب قبرص، ومنها إلى اليونان، ثم إيطاليا قبل توجهه لأوروبا، العواصم الأربع اتفقت، أبريل 2017، على أساسيات أطول خط غاز بحرى فى العالم «2200 كم»، تكلفته غير اقتصادية «7 مليارات دولار»، وطول مدة تنفيذه «8 سنوات»، تعتبر عوامل معوقة لقبوله.. البديل الثالث نقل الغاز القبرصى والإسرائيلى إلى مصر لتحويله إلى غاز مسال ثم تصديره، عبر خطوط أنابيب بحرية أو بالناقلات العملاقة لأوروبا، مصر وقعت مع قبرص اتفاقاً مبدئياً، أغسطس 2016، لربط حقل أفروديت بمحطات الإسالة، شراكة شل العالمية فى الحقل القبرصى «35%»، وفى محطة الإسالة المصرية، يعزز معدلات الإنجاز، ليصبح الخط جاهزاً للعمل 2020.. دخول إسرائيل كشريك يرتبط بتسوية غرامات «1.7 مليار دولار» حصلت على حكم بشأنها ضد مصر من محكمة سويسرية تعويضاً عن وقف بيع الغاز بعد 2011، اعتماد هذا البديل على الشحن بالناقلات يسمح بالإنتاج والتصدير فوراً، مما يوفر عائدات لتمويل الخط، هذا البديل سيحول القاهرة إلى مركز إقليمى متكامل للطاقة. الحروب التى أعقبت الخريف العربى لم تنفجر عشوائياً، لكن الحرب المقبلة هى الأخطر، والأشد ضراوة.. فمنطقة شرق المتوسط تحتضن ثروات غازية مهولة، تبلغ قرابة 340 تريليون متر مكعب، وفق تقديرات المسح الجيولوجى الأمريكى، وهى كمية تتجاوز الاحتياطى المؤكد بالولايات المتحدة، ما يجعلها بؤرة الاهتمام الدولى فى السنوات المقبلة، لأنها قادرة على قلب توازنات القوى بالمنطقة، والعالم..
إسرائيل اكتشفت الغاز قبالة سواحلها 1999، لكن الاحتياطات الأكبر كانت بالمياه العميقة، حقل «تامار» 2009 بتقديرات 9 تريليونات قدم مكعب، يقع بالمنطقة المتنازع عليها مع لبنان، والتى تسيطر عليها إسرائيل، حقل «ليفياثان» احتياطياته 18 تريليون قدم مكعب.. قبرص اكتشفت حقل أفروديت 2011، باحتياطى مقدر بـ27 تريليون قدم مكعب، التهديدات التركية الأخيرة، ومنع بحريتها لحفار «إينى» الإيطالية من الوصول لمواقع التنقيب القبرصية، تزامنت مع اكتشاف كونسورتيوم إينى وتوتال الفرنسية مكمناً كبيراً للغاز شمال غربى قبرص، مماثل فى طبيعته لحقل «ظُهر». لبنان رسَّم حدوده البحرية مع قبرص، لكن الأطماع الإسرائيلية والأزمة السورية حالتا دون ترسيمه لحدوده الجنوبية والشمالية، المسوحات التى نفذتها شركة «أس جى أس» الأمريكية أكدت وجود كميات كبيرة من الغاز، لا تقل عن 20 تريليون قدم مكعب، لبنان وافق، ديسمبر 2017، على عرض كونسورتيوم «توتال» و«إينى» و«نوفاتك» الروسية للتنقيب والإنتاج بالشريط الموازى لمنطقة النزاع مع إسرائيل، لكن «ليبرمان» وصف الإجراء بالاستفزازى، ووجه تهديدات صريحة.. حقل مارين تم اكتشافه بالمياه الإقليمية لقطاع غزة الفلسطينى منذ 2000، يحتوى على كميات تكفى لسد احتياجاته، بدلاً من الاستيراد، لكن إسرائيل تسيطر عليه، وتشترط موافقتها قبل السماح بأية عمليات تنقيب أو مد أنابيب للغاز.. إسرائيل تفرض الوصاية على جيرانها، بدعاوى أمنية.. والمنطقة على برميل بارود.
سوريا ليست فى وضع يسمح بدخولها معترك حرب الغاز، رغم أن الحرب السورية من بدايتها حرب غاز، استهدفت إسقاط النظام وتفتيت الدولة لإيجاد ممر لخط أنابيب الغاز القطرى المتجه لتركيا ومنها لأوروبا، مما يفسر التدخل الروسى للدفاع عن مصالحه الاقتصادية فى استمرار السيطرة على 40% من إمدادات الطاقة لأوروبا، لكن الاقتصاد يحكم السياسة، وعندما استشعر الروس التطبيع التركى الإسرائيلى تمهيداً لصفقة الغاز، ابتلعوا علقم إسقاط طائرتهم الحربية، واغتيال سفيرهم بأنقرة، وطبعوا العلاقات مع أنقرة لأنها ثانى أكبر مستورد للغاز الروسى «30 مليار متر مكعب» بعد ألمانيا، لكن «القطرية للغاز» تمكنت من شراء 20% من أسهم «روس نفط»، وقامت بشراء 30% من أسهم «ظهر» لتشارك «إينى» و«بى بى» البريطانية.. تشابك المصالح يتخذ منحىً أقرب للجنون.. مصر تعمل بمعدلات متسارعة لإنجاز مراحل تنمية الحقل، على النحو الذى أدهش رئيس «إينى»، وذلك انطلاقاً من حقيقة أن الغاز والبترول بشرق المتوسط يوجدان تقريباً فى حوض واحد وعلى أعماق مشتركة، تمتد من شواطئ شبه جزيرة سيناء، مروراً بشواطئ فلسطين ولبنان وسوريا وقبرص، وصولاً إلى تركيا، لذلك فإن الجميع يسحب من نفس المصدر، مما يفسر تبكير إسرائيل بعمليات الكشف والاستخراج، ومماطلتها فى ترسيم الحدود البحرية مع لبنان وسوريا وقطاع غزة.. تلك «ساحة الحرب»، ما وقّع من اتفاقات موضع رفض ممن لم يوقعوا.. وما لم يوقع تحكمه النزاعات.. ومحور النزاع ثروات ضخمة، تستحق الحروب.. مقالنا التالى (حول حرب الغاز المقبلة «2- التحضير الميدانى»).