فى سنة ١٩٧٣، كانت الحركة الطلابية فى أوجها، وكان محركها الأول هو الرغبة فى استرداد الأرض.. كانت المعارضة للرئيس السادات، ناجمة فى المقام الأول من الشعور، بضرورة الحرب.. كانت معارضة، نقية، عفية، قوية، استقطبت غير الطلاب فئات من مثقفى ومفكرى مصر، ولكن ما إن جاء البيان الأول فى الساعة الثانية ظهراً من يوم السبت السادس من أكتوبر، حتى صار «الكل فى واحد».. صارت كل الأصوات، صوتاً واحداً، يتكلم باسم الوطن الواحد، الذى يخوض حربه المقدسة. عند صدور البيان الأول للعملية الشاملة لتحرير سيناء من الإرهاب، بدا لى الأمر قريباً مما عشته عام ٧٣.. مع شعور باختلاف فى طبيعة الحرب.. فى ٧٣ كنا نواجه جيشاً عدواً.. جيشاً نظامياً يقف على الضفة الأخرى، مكانه محدد. فى ٢٠١٨، نحن نواجه عدواً يحاصرنا من عدة جهات، عدواً له أذناب وأذرع وأنياب مزروعة فى أكثر من مكان. فى ٧٣، كان العدو «متعيناً»، سلبنا مسحة من الأرض. فى ٢٠١٨، نحن نواجه عدواً منتشراً، متناثراً، يستهدف «وجودنا» نفسه. ما الذى غاب عن «البعض»، وغيّب عنه هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، فاندفع كاشفاً عن نوع من المعايير المزدوجة؟
أفهم جيداً الخلاف فى الرأى، وأراه من علامات العافية الوطنية والسياسية، ولكنى أيضاً أعى الفرق ما بين خلاف فى التوجه السياسى، وبين محاولات «قلب الترابيزة»، أو استغلال المواقف، لنكتشف أنه ليست المشكلة فيمن يناصب الوطن عداءً صريحاً، ولا فى الذين اختاروا انحيازات واضحة تضعهم فى خندق معادٍ، لكنّ مِن أصعب ما نواجهه نوعاً من «جحور» الإعلام أو وسائط التواصل الاجتماعى التى برزت بوضوح الأسبوع الماضى، ومنذ الإعلان عن بدء العملية الوطنية لتطهير بلادنا من الجماعات الإرهابية. لا أملك إلا شعوراً بالاستغراب إزاء هذه الأجواء التى تسعى بعض الأقلام إلى خلقها، فى تلك اللحظة المصيرية.. أجواء تلتحف بنوع من «اللدغ»، وهذا أبسط ما يمكن أن تصف به الذين يطرحون نوازعهم الداخلية، فى صورة، إما أسئلة أو اتهامات تصوب باتجاه ما يجرى فى سيناء. شعب مواجَه بحرب «وجود»، فى مواجهة عدو بادر بالقتل والحرق، وتغلغل وتواطأ، مع مصالح دولية، شعب فُرض عليه أن يدافع عن وجوده، بدماء جنوده.. أبناء وآباء، استودعهم بين يدى الله، فإذا «بفحيح»، يتسرب من بين ثنايا بعض الكتابات، يستهدف شق الصف بدعاوى أستنكف عن ذكرها، دون أن أعبر عن دلالاتها، فتحس بأنك إزاء جيوب، تستكمل توجهاً، فى ظاهره وباطنه، لا يريد لهذا الوطن «سلامة». ليس مما عهدته فى نفسى، وعاهدت نفسى عليه، استحضار نماذج أختلف أو لا أتجانس مع ما تدعو إليه.. لكن المسألة تكمن فى خطورة منهج «ناعم»، تبناه البعض، يُطرح مدعياً البراءة، طروحات يتم تمريرها فى سياق نقاشات «نخبوية»، لا يمكن أن تحتملها اللحظة، المدخل أو النهج الجديد الذى هو أشبه «بالفحيح»، الذى يروّج لنفسه، أو يتوارى خلف نوع من الادعاء بأنه قلبه «على الشباب»، الذين يبذلون الأرواح.
ثنايا بعض الكتابات المعلنة، وصفحات على الوسائط الاجتماعية، تنثر وتقطر سماً.
أنا على يقين من أن سلامة الفطرة، والوعى الوطنى، لشعب اختار طريقه فى أصعب الظروف، لن يسمحا لمثل هذا الفحيح بأن يتجاوز تأثيره، نافثيه، لكن عليك أن تدرك، تحولات فى الخطاب تتسلل، وأن خطورتها تكمن فى «ميوعة»، أو «سيولة» ما تطرحه من أفكار.. فرض علينا «القتال».. حفاظاً على «الوجود»، والقتال ليس كله بالرصاص، وكشف الأفكار والرد عليها، لم يعد مقصوراً على سياقات الفتاوى والأفكار الدينية، فلعل هذا أبسط الصور مما نواجهه، وعلينا أن نستمر فى مواجهته، لكن هناك طروحات سياسية أو حداثية أو نخبوية، لا تستنكف أن تستخدم مقاربات تاريخية، لتخدم خلافها السياسى، الذى من المفترض أن يتراجع عند بديهيات حرب ندافع فيها عن وجودنا.. حرب نسترد من خلالها حق الشهداء.. عشت وعايشت عن قرب حميم، قبل ما يقرب من نصف قرن استشهاد الرفاعى، وإبراهيم عبدالتواب، وعشت مؤخراً استشهاد «خلاصة» من أنبل أزاهير هذا الوطن.. عشت فقد منسى والشبراوى ووائل.. هؤلاء الذين ندين لهم بعد الله، باستمرارنا، ويدين لهم قبلنا من «لا يرون من الغربال»..