مَن لا يتعلم من دروس التاريخ يؤدبه التاريخ. تقدم لنا حكايات السابقين قصصاً كثيرة عن أشخاص ساروا فى ركاب رموز سياسية سعت فى طلب الحكم، فلما أُحيط بهم من جانب الجالس على كرسى السلطة أنّوا وبكوا، وصرخوا واشتكوا، وتساءلوا عما يحدث لهم، وجاءتهم الإجابة مدوّية من بسطاء الناس: إن مَن يطلب مثل الذى تطلب لا يبكى إذا نزل به هذا. تلك هى العبارة التى قرع بها البسطاء أُذن مسلم بن عقيل عندما بكى لما أحاط به جنود عبيدالله بن زياد فى منزل امرأة -اسمها «طوعة»- كان يختبئ عندها. وإليكم القصة.
عندما زاد عدد الرسائل التى تدفقت إلى الحسين بن على من أهل العراق ليأتى إليهم ويبايعوه بالخلافة، بعث إليهم ابن عمه «مسلم بن عقيل» ليستوثق له من الأمر، وعندما وصل «مسلم» إلى الكوفة تحلّق حوله أهلها وبايعوه على إمرة الحسين ونصرته، وبلغ عدد مَن بايعوا على ذلك ثمانية عشر ألفاً، وبلغ الأمر «النعمان بن بشير» أمير الكوفة، فخطب فى الناس وحذرهم من الخروج على الخليفة، وأرسل إلى «يزيد» يعلمه بالأمر، فاستضعف الأخير موقفه وتردده فى مواجهة أنصار الحسين، فكان أن عزله وولّى «عبيدالله بن زياد» مكانه. وصل الأخير إلى الكوفة ونُودِىَ فى الناس: «الصلاة جامعة» فتقاطروا إلى المسجد فخطب فيهم عبيدالله بن زياد قائلاً: «إن أمير المؤمنين قد ولّانى أمركم وأمرنى بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره». ثم نزل وأمر العرفاء (المخبرين بالمصطلح المعاصر) أن يكتبوا من عندهم من الزورية (الداعين إلى التمرد)، وأهل الريب والخلاف والشقاق، وقال: «أيما عريف لم يطلعنا على ذلك صُلب أو نُفى وأسقطت عرافته من الديوان». هكذا كانت «أجهزة التخابر» -أو العرافون بلغة ذلك العصر- تعمل كعهدنا بها فى كل الأزمنة والأمكنة!.
عندما علم «مسلم» بمقدم عبيدالله بن زياد، تحرك وآلاف ممن بايعوه على نصرة الحسين وحاصروا قصر الإمارة. وكاد «عبيدالله» له فأمر رجاله بتخذيل الناس عنه، «فجعلت المرأة تجىء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت الناس يكفونك، ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غداً بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟. فتخاذل الناس وانصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبقَ إلا فى خمسمائة نفس، ثم قلّوا أكثر حتى بقى فى ثلاثمائة، ثم قلّوا حتى بقى معه ثلاثون رجلاً فصلى بهم المغرب، وقصد أبواب كندة (موضع بالعراق)، فخرج منها فى عشرة ثم انصرفوا عنه، فبقى وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤويه إلى منزله، فذهب على وجهه، واختلط الظلام، وهو وحده يتردد فى الطريق لا يدرى أين يذهب».
انتهى الأمر بمسلم بن عقيل إلى الاختفاء فى منزل امرأة يقال لها «طوعة»، فوشى ابنها إلى الأمير باختفاء «مسلم» فى دارهم، فأُحيط به وحرّك عبيدالله صاحب شرطته فقبض عليه، وجاءوا ببغلة فأركبوه عليها، وسلبوا عنه سيفه، فلم يبقَ يملك من نفسه شيئاً، فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال بعض من حوله: إن مَن يطلب مثل الذى تطلب لا يبكى إذا نزل به هذا!.