أى شخص فى أى بقعة من بقاع العالم يعرف النظام الأمريكى والسياسة الأمريكية سواء كان الرئيس هناك أوباما أو إيزنهاور أو كلينتون أو زكى جمعة! وكذلك الحال فى كل الدول الأخرى فى شتى قارات العالم حيث الدول الرأسمالية والدول الشيوعية والدول الليبرالية فضلاً عن الدول العربية ذات الوضع الخاص مثل السعودية والإمارات والمغرب وغيرها.
كل دولة من دول العالم بها نظام مؤسسى لا يتحول على المستوى الاستراتيجى إلى شىء آخر فى ظل أى رئيس أو أى حكومة، وهذا الطابع المؤسسى لنظم الحكم فى شتى البلدان يساعد الحاكم الجديد على تحقيق قدر معقول من النجاح والاستقرار لأنه يعمل منذ اليوم الأول فى ظل مؤسسات مستقرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ولا يحتاج لإنفاق جهده ووقته وعهده فى إعادة بناء الدولة واستحداث هوية سياسية وثقافية واقتصادية لها ولشعبها.
مصر -التى يصفها أهلها وبعض الآخرين بأنها أم الدنيا- تختلف عن سائر الدول الأخرى، فالأمر المؤسسى الوحيد عندنا هو اللامؤسسية!!
مصر فى التاريخ القديم هى الدولة الوحيدة التى حكمها سبعون ملكاً فى سبعين يوماً، أى إن كل ملك يبدأ عهده فى الصباح ثم يخلفه ملك آخر فى منتصف الليل!! هكذا يقول التاريخ الفرعونى فى الكتب التى يقرؤها الناس والباحثون.
مصر فى التاريخ الوسيط هى الدولة الوحيدة التى أدى مسلموها صلاة العشاء ذات يوم على المذهب الشيعى، ثم استيقظوا لأداء صلاة فجر اليوم التالى فوجدوا أنفسهم على المذهب السنى وفق أوامر صلاح الدين الأيوبى، ويقول المؤرخون فى هذا الصدد إن هذا التحول العجيب «لم يتناطح فيه عنزان» أى إن أحداً فى طول البلاد وعرضها لم يستنكر أو يرفض هذا التحول السريع الغريب فى مذهب الدولة!
مصر فى التاريخ الحديث قاتلت بضراوة ضد الحملة الفرنسية رغم أن هذه الحملة هى التى منحت المصريين لقب «شعب» لأول مرة فى التاريخ، وهى التى أدخلت الطباعة فى مصر، وهى التى قدمت للمصريين أول محاولة لتأسيس النقابات المهنية أو الحرفية، وهى التى دعت المصريين للانتخاب لأول مرة فى تاريخهم، وهى التى اكتشفت حجر رشيد وأهدت مصر والعالم كله أسرار الكتابة الهيروغليفية. والأهم من كل هذا أن مصر وقت النضال ضد الفرنسيين كانت تعيش فى ظل ثلاث فئات من الاستعمار، العثمانى والبريطانى والمملوكى، ولكن الشعب المصرى الكريم اختار النضال ضد النوع الرابع الذى قدم لمصر شيئاً من الثقافة والعلوم والديمقراطية!
ومصر فى التاريخ الحديث أيضاً هى التى ثارت ضد الدولة العثمانية وحين نجحت ثورتها لم تجد شخصاً مصرياً يتولى الحكم، وذهب السيد عمر مكرم يلتمس من أحد ضباط الحامية الألبانية قبول حكم البلاد على أن يلتزم بتنفيذ أوامر السادة الأشراف، وقبل محمد على المهمة ثم أطاح بالمطالب والمماليك وعمر مكرم نفسه خارج التاريخ!
مصر اللامؤسسية هى أكثر دول العالم إفساداً لأى إنجاز يتحقق على أرضها. فى تاريخها القديم حقق الملك خوفو معجزة بناء الهرم الأكبر إحدى عجائب الدنيا فى كل العصور، ولكن البذخ الشديد فى الإنفاق على بناء الأهرامات أدى لانهيار الدولة القديمة واندلاع الثورة الاجتماعية أو عصر الاضمحلال الأول.
وفى عصر الدولة الحديثة (الفرعونية) تمكن أحمس من طرد الهكسوس مما أدى لإيقاظ الروح الوطنية فى البلاد ودعم الجيش المصرى، ولكن الملك بسماتيك أطاح بكل هذه الإنجازات وأسس مدناً خاصة للمرتزقة الإغريق ومنحهم امتيازات ضخمة على حساب الضباط المصريين مما أدى فى النهاية إلى الغزو الفارسى لمصر وإغلاق ملف الفراعنة إلى الأبد.
وفى التاريخ الوسيط حققت مصر فى ظل حكم المماليك انتصاراً تاريخياً على التتار فى موقعة عين جالوت، وأنقذت الشرق كله من الضياع أمام وحشية هولاكو ودولته. ولكن الجيش المنتصر فقد قائده قطز قبل أن يعود إلى العاصمة، فقد قتله زميله بيبرس كعادة المماليك فى الغدر ببعضهم البعض.
وفى التاريخ الوسيط أيضاًَ رحب المصريون بالجيش العربى الإسلامى وقائده عمرو بن العاص وساعدوه على الإطاحة بالغزاة الرومان أو البيزنطيين، وكافأهم القائد العربى الإسلامى باستبعاد كل المصريين من الجيش أو الإدارة وجمع من الضرائب أضعاف ما كان يحصل عليه الغزاة السابقون ثم استورد العرب شتى أنواع العبيد المماليك لمساعدتهم فى حكم مصر، وانتهى الأمر بتكوين دولة المماليك على حساب إخواننا العرب الذين رحب بهم المصريون!
وخلال الحكم الرومانى لمصر أصدر أحد الأباطرة قراراً بمنح المواطنة الرومانية لكل سكان الولايات الخاضعة لروما وإعفائهم من ضريبة الرأس والالتزامات التعسفية الأخرى، ولكنه استثنى مصر من هذه النفحة لأنها من «البلاد المغلوبة» التى لم تقاوم الغزو الرومانى عقب هزيمة كليوباترا وأنطونيو فى موقعة أكتيوم!
وفى التاريخ الحديث وعند ظهور مصطفى كمال أتاتورك وتأسيس حركة جديدة تطالب بالتخلص من مستعمرات وولايات الإمبراطورية العثمانية، عارض المصريون وعلى رأسهم الزعيم مصطفى كامل هذا التوجه التركى الجديد، وطالبوا باستمرار مصر جزءاً من الخلافة الإسلامية العثمانية!
وفى ذات هذه الحقبة من التاريخ المصرى أوقف الزعماء المصريون ثورة 1919 حين انضم إليها الفلاحون والفقراء، وقرر الزعيم سعد زغلول الاتجاه لحل المسألة المصرية بالطريق السلمى وذهب إلى مؤتمر الصلح فى باريس 1920 عقب الإخماد الذاتى لثورة الشعب المصرى حتى لا تحقق النجاح الكامل فيطالب الفلاحون والمعدمون بحقوق المواطنة!
وقبل شروع الحبشة فى بناء سد النهضة بمئات السنين، عاشت مصر فى عهد المستنصر عصراً من الجفاف القاتل فى موارد نهر النيل مما أدى إلى ما يعرف باسم «الشدة المستنصرية»، التى أكل فيها بعض المصريين لحوم أقاربهم وجيرانهم وأبنائهم وأحفادهم فى وحشية لا يعرف لها التاريخ نظيراً، ورغم هذه المأساة يقال إن عصر هذا الحاكم استمر ستين عاماً أى ضعف مدة حكم زعيمنا المزمن محمد حسنى مبارك!! ويقال أيضاً فى هذا الصدد إن الحسن بن الهيثم زار مصر أثناء حكم الدولة الفاطمية ونصح حكامها بإنشاء سد على النيل لوقاية البلاد من السنوات السبع العجاف التى سبق أن عالجها يوسف (عليه السلام) فى عهد سابق، ولكن الفاطميين لم يستجيبوا للنصح فابتلاهم الله بهذه الكارثة فى عهد المستنصر بالله!!
مصر المعاصرة عاشت فترة من الشقلباظات العجيبة التى ما زلنا نكتوى بنارها حتى الآن. ففى عهد عبدالناصر كانت مصر دولة اشتراكية ينعم فيها الفقراء بقدر كبير من العدالة الاجتماعية ثم تحولت فى عهد السادات إلى دولة انفتاحية عشوائية يتحكم فى اقتصادها وأرزاق شعبها قطاع عريض من الصيع والمغامرين والفاسدين والبلطجية والمنافقين وكل أراذل البشر، ثم صارت فى عهد مبارك كياناً راكداً لا هو اشتراكى ولا رأسمالى ولا ليبرالى ولا عسكرى ولا دينى ولا أى شىء له معنى، ثم تخلص المصريون من عهد الزعيمين المؤمن والمزمن فابتلاهم الله بالزعيم الزلنطحى ممثل عصابة الإخوان!
أغرب ما فى هذا السياق اللامؤسسى فى التاريخ السياسى المصرى أن كل الفترات المشرقة فى حياة الشعب المصرى كانت فى ظل حكام لا علاقة لهم بأى نوع من الديمقراطية. فى عهد الفراعنة تجد أسماء رمسيس الثانى وتحتمس وأمنمحات وأحمس، وكلهم ملوك حكموا البلاد حكماً استبدادياً كسائر الفراعنة، وفى العصور الوسطى تجد انتصارات مصرية على التتار والصليبيين وكلها حدثت فى عهد المماليك والدولة الأيوبية ولم يكن فى أى منها أى نوع من الديمقراطية، وفى التاريخ الحديث حققت مصر نقلة حقيقية عسكرياً وحضارياً على يد محمد على وابنه وبعض ورثته، ولم يكن فى عهد محمد على أى نوع من الديمقراطية، وفى التاريخ المعاصر وصلت مصر إلى آفاق جديدة غير مسبوقة من التألق السياسى والاجتماعى والثقافى والفنى فى عهد عبدالناصر الذى لم يعترف هو الآخر بالديمقراطية السياسية وعوضها أو حاول تعويضها بالعدالة الاجتماعية والتحول الاشتراكى وخطط التنمية الحقيقية والنضال ضد كل أنواع الاستعمار على المستويين القومى والدولى.. وفى عهد السادات تمكنت مصر من تحقيق انتصار عسكرى غير مسبوق على الصهاينة وتمكنت من استرداد أرضها وكرامتها فى حرب أكتوبر، ولكن أيضاً فى غياب كامل لأى نوع من الديمقراطية الحقيقية.
أحدث فصول اللامؤسسية المصرية الأزلية أن يرزقنا الله بحاكم يحاول إزالة عشوائيات التاريخ والسياسة والاقتصاد فيواجهه الشعب المصرى الكريم بالشكوى من أسعار الفراخ والبامية والخيار، ويترحم بعضهم على أيام الزعيم المزمن الذى علمهم وتعلم منهم أصول الجبلنة وحوّلهم إلى قطيع يرتع فى الفساد والتخلف والضياع!